هذه سيدة فنانة عرفت بما لم تعرف به الفنانات فقد تميزت بالالتزام في السلوك الشخصي، وفي تنفيذ تعليمات المخرج، وفي التعامل مع الزملاء، والالتزام في مواعيد التصوير، ومواعيد البروفات، ومواعيد رفع الستار بالمسرح. عرف عنها الاهتمام بالمضمون والعمل، وإهمال الشكليات، ولم يعرف عنها دخولها في أي خلافات شخصية خلال مشاركتها في الأعمال الفنية. عرفت أيضا بالاهتمام بأدق التفاصيل، وارتبط اسمها دائما بحبها الشديد للعمل، وجديتها المفرطة، والتدريب المستمر، واكتساب المهارات، وعلى النقيض من ممثلات كثيرات عاصرنها في مراحل مختلفة من مسيرتها الفنية، فإنها كانت تؤمن بأهمية الكم، لأنها كانت تعرف أنه لابد أن يحقق إضافة على مستوي الكيف، وليس من قبيل المبالغة أن يقال إن أدوار أمينة رزق الخالدة تقارب ألف دور اجتهدت في أدائها وتجسيدها. لكنها لم تترك لنا مذكرات شخصية، كما فعلت مثلا زميلتاها روز اليوسف، وفاطمة رشدي.
وإذا كان للقرن العشرين أن يتمثل في ممثلة عربية واحدة فهي بكل تأكيد أمينة رزق، التي عاشت هذا القرن كله وعبرت عن تحولاته كلها في حياة نادرة لم يقدر لغيرها من الممثلات أن تعيشها على هذا النحو الفريد: نجمة دائمة، متطورة الأداء والأدوار، قادرة علي صياغة الانفعالات والتعبير عن الحزن، والفرح، والعطف، والكبرياء، والطيبة، والسذاجة، والخبث، والمكر، والدهاء، والضعف، والاستكانة، والانسحاق، والتصميم، والصبر، والتصدي، والتحدي، والقناعة، والتدبير، وكانت في أدائها لكل هذه الأدوار نموذجا للأداء الراقي، والسلوك المنضبط.
وقد استمرت رحلة عطاء أمينة رزق فني ثمانين عاما، وهو ما لم يتح لغيرها من الفنانين في جيلها والأجيال السابقة، أبدعت خلالها في جميع القنوات الفنية: المسرح، والسينما، والإذاعة والتليفزيون، وتألقت من خلالها جميعا، وأثبتت قدرتها ومهارتها في التواصل مع مختلف الأجيال، والاستفادة من مختلف المناهج والأساليب الفنية. وقد اقترنت قدرتها على التطوير بالإصرار على التنويع وعدم التكرار، ولم تلتزم باللغة العربية الفصحى التي تجيدها فحسب، وإنما قبلت أدوارا أخري باللغة الثالثة ولم تحصر نفسها في الأعمال التراجيدية فقط، وإنما قبلت أدوارا بعيدة عن هذا الطابع المسيطر علي صورتها القديمة.
بالطبع وبحكم الزمن فقد بدأت أمينة رزق نجوميتها في ميدان المسرح حيث بزغ نجمها كممثلة قديرة تهز مشاعر الجمهور في أدوار الأم الحانية، والزوجة الوفية التي تشاطر زوجها تقلبات الحياة ومنذ بداية حياتها الفنية كانت تخطو خطوات سريعة في اتجاه أن تكون بطلة العرب المسرحية، وقد تحقق لها هذا من خلال مراحل متتالية حيث كانت بطلة فرقة رمسيس، ونجمة المسرح القومي.
تألقت أمينة رزق في ريعان شبابها في العشرينيات والثلاثينيات من القرن العشرين في أداء دور الفتاة الرقيقة الوديعة ذات العاطفة المشبوبة، السريعة التأثر، وقد شاب أداءها المبكر الطابع الميلودرامي الذي ميز عروض فرقة يوسف وهبي، وقد كان للسنوات الطويلة التي أمضتها بفرقة يوسف وهبي الميلودرامية أبلغ الأثر على تشكيل شخصيتها الفنية، غير أنها أخذت تتخلص من نبرة الحزن هذه، كلمات تقدمت في العمر، وبدا ذلك جليا في مسرحياتها المتأخرة. ومع تقدمها في العمر تحولت إلى أداء دور الأم في المسرح والسينما وهو الدور الذي فضله لها المخرجون والمنتجون، بل والمشاهدون أيضا، وقد أدته بفن واقتدار، فهي الأم والزوجة التي يفوق عطاؤها وصبرها وتضحياتها كل حد.
تجلت مواهبها أيضا في أدوار الشخصيات التاريخية الكبيرة، فهي في مسرحية «شجر الدر» (في دور شجر الدر نفسها) ملكة حكيمة بعيدة النظر، واسعة الحيلة، وزوجة وفية، كما أنها أنثي عاشقة، وقد أجادت تمثيل ضعفها البشري، وبدت منتقمة جبارة في سبيل الحفاظ على كرامتها والانتقام لها عندما أصبحت امرأة يهجرها زوجها. نشأت أمينة رزق في مدينة طنطا، ثم انتقلت بعد وفاة عائلها إلى القاهرة، واستقرت بحي روض الفرج. أخذت تتردد في أوائل العشرينيات، مع خالتها أمينة محمد، على كازينوهات ساحل روض الفرج لمشاهدة العروض التمثيلية، والفواصل الغنائية التي كانت تقدمها فرق فوزي منيب، والجزايرلي، والمسيري، ويوسف عز الدين، وقد بدأت أمينة رزق هي وخالتها أمينة محمد العمل بفرقة يوسف عز الدين، ثم انتقلتا إلى شارع عماد الدين، وتوسم يوسف وهبي فيهما الموهبة، فوقع لكل منهما عقدا للعمل بفرقته، وتولاهما عزيز عيد المدير الفني بالتدريب والتوجيه.
وفي أكتوبر 1924 رفع الستار عن مسرحية «راسبوتين» وأدت أمينة رزق لأول مرة دورا كاملا هو دور «ديمتريف». وبعد سنوات قليلة استقرت بين ممثلات الصف الأول بين ممثلات الفرقة، وفي 1930 أسند إليها أدوار البطولة بالتبادل مع الفنانة فردوس حسن، في أثناء غياب الممثلة الأولي زينب صدقي. وبعد خروج فردوس حسن من الفرقة في الثلاثينيات أصبحت أمينة رزق بطلة الفرقة بلا منازع، وظهرت أمام يوسف وهبي في عشرات المسرحيات ولما حل يوسف وهبي فرقته في عام 1944 انضمت أمينة رزق مع أفراد الفرقة في شهر مايو إلي الفرقة المصرية للتمثيل والموسيقى، وأمضت في العمل معها أكثر من ربع قرن، كواحدة من بطلاتها المعدودات في عشرات العروض.
كانت أمينة رزق من ممثلات المسرح اللاتي سرعان ما أثبتن وجودهن الطاغي في السينما، وقد ظهرت أمينة رزق لأول مرة على الشاشة في فيلم «أولاد الذوات» (1931)، ثم توالي ظهورها في أفلام عديدة. ثم انتقلت نجومية أمينة رزق إلي مجالي الإذاعة والتليفزيون بالقدر ذاته من القوة والحضور والتأثير. كانت أمينة رزق شديدة الإيمان بدور الفن ومقدرته الإيجابية على تنمية المجتمعات، والمشاركة في طرح القضايا الوطنية والاجتماعية، وحين انتشرت الأحاديث عن اعتزال الفنانات وتحجبهن وتوبتهن ثارت وردت بكل قوة: «إن الفن ليس خطيئة يُتاب عنها».
نالت أمينة رزق أقصي درجات التكريم الأدبي في وطنها، وقد كانت من أوليات من حصلن على جوائز تقديرية متعددة، كما نالت تقديرا رسميا وصل ذروته عندما اختارها الرئيس مبارك للتعيين عضوا في مجلس الشورى في المكان الذي كان يشغله الموسيقار محمد عبد الوهاب منذ تأسس المجلس وحتى وفاته في 1991. وقد توفيت الفنانة العظيمة أمينة رزق في 24 أغسطس 2003.
تم النشر نقلا عن مدونات الجزيرة
ولقراءة التدوينة من موقع الجزيرة إضغط هنا
للعودة إلى بداية التدوينة إضغط هنا