سأبدأ بصدمة كهربية لأقول: إن المؤرخين المعاصرين لم يخطئوا في حق كما أخطأوا في حق فؤاد سراج الدين (1910 ـ 2000)، وليس معني هذا أنهم صوروه شيطاناً علي حين أني أتصوره ملاكاً ولا العكس، وإنما الحقيقة التي هي لب الكتابة التاريخية والنقدية، أن سراج الدين هوجم في كثير من الأحيان بطريقة بدائية اعتمدت فقط علي استغلال الانطباع الأول لدي الجماهير عنه، فهو رجل ثري متنعم مدخن للسيجار، ومن ثم صورت شخصيته علي نحو سريع مناقض تماما للحقيقة التاريخية إلي درجة أن الجوانب الملائكية في شخصيته صورت علي أنها جوانب شيطانية.
وفي المقابل صورت الجوانب الشيطانية في شخصيته على أنها جوانب ملائكية، وربما نكون أحوط في تعبيرنا فنغير العبارة السابقة إلى عبارة أشد اتزاناً ونقول: إن الجوانب الإيجابية من شخصية فؤاد سراج الدين قد صورت بطريقة سلبية، وإن الجوانب السلبية في شخصيته قد صورت بطريقة إيجابية، ومع هذا فإني لا أزال أكثر ميلا إلى الجملة الأولى التي تستعمل ألفاظ المخلوقات بدلاً من ألفاظ الشحنات والاتجاهات.
كان فؤاد سراج الدين باشا صاحب توجه اشتراكي واضح، وفي عهده كوزير للشئون الاجتماعية خرجت تشريعات كثيرة مهمة لصالح العمال، منها قوانين نقابات العمال نفسها، ولو قارن أي باحث منصف بين روح تشريعات نقابات العمال وروح أي قانون وضع في عهد ثورة 1952 وفي ذروة المد الاشتراكي، لرجحت أمامه كفة القوانين التي وضعت في عهد فؤاد باشا سراج الدين.
وقد قيل ـ علي سبيل المثال ـ ولا يزال يقال إن فؤاد سراج الدين انحاز إلى طبقة كبار الملاك باعتباره منهم، لكن الحقيقة أن فؤاد سراج الدين لم ينحز إلى طبقة كبار الملاك بقدر ما انحاز إلى الشعب، فقد فرض سراج الدين ضرائب تصاعدية على كبار الملاك، واشتط في هذا الاتجاه حتى إنه فرضها بأثر رجعي، ومع هذا فإننا لا نستطيع اليوم في سنة 2018 أن نفرض ما يماثلها، بل علي العكس، فإن الشائع المؤكد الموثق عند الجماهير ـ وربما يكون هذا الشائع خطأ ـ أن كبار المستثمرين ورجال الأعمال لا يدفعون ضرائب أبداً لأنهم لا يكفون عن الاستفادة من قوانين الاستثمار التي تعفي من الضرائب، ويحتالون على هذا الإعفاء مرة بعد أخرى بإعادة تأسيس الشركات وبإعلان إفلاس الشركات القديمة وبنقل النشاط وما إلى ذلك كله من الوسائل المقننة لتجنب دفع حقوق الدولة وهو ما لم يحدث أبدا مع سراج الدين ولا عهده حتى إن المرة الوحيدة التي ثارت فيها هذه الشبهة ظلت بمثابة فضيحة تلاحق وتدين المليونير الكبير عبود باشا.
تكرر الأدبيات التاريخية القول بأن فؤاد سراج الدين كان علي علاقة حسنة بالملك وبالقصر، ومن المذهل أننا حين نقرأ ما هو منقول عن محاضر مجلس الوزراء فيما يتعلق بأزمة قوانين تقييد حرية الصحافة فيما يتعلق بحماية الذات الملكية من العيب، نجد أن عميد الأدب العربي (والصحفي) الدكتور طه حسين كان مع وزراء كثيرين من أنصار تقييد حرية الصحافة، على حين كان فؤاد سراج الدين ومحمد صلاح الدين باشا مع الزعيم مصطفي النحاس فقط ضد هذا التقييد، وضد هذه القوانين، ومع هذا فإن كتابة التاريخ من الانطباعات والشائعات تنتصر في مصر علي كتابته من المحاضر والمواقف المسجلة علي نحو لا يقبل اللبس.
أنتقل سريعا إلى ما حدث بعد أن قامت الثورة وأرادت تطبيق الإصلاح الزراعي بالنموذج الذي كان في ذهن رجالها، وبالأخص في ذهن جمال سالم، فقد وافق الوفد والنحاس وسراج الدين علي المبدأ وحاولوا تقديم بعض النصائح، فلما وجدوا أن الثورة مصممة على رأيها وافقوا لها على أن تمضي في طريقها، وفي مقابل هذا فإن رئيس الوزراء الأول في عهد الثورة وهو الرجل الذي اختارته الثورة بمحض إرادتها وهو علي ماهر باشا لم يوافق، مما أدى إلى تسريع استقالته.
لكن فؤاد سراج الدين باشا كان في المقابل ـ للأسف الشديد ـ أول مَنْ وضع البذرة التي سارت عليها ثورة 1952 بعد ذلك في الإكثار ما أمكن من الوزراء التكنوقراطيين دون أي تأهيل سياسي. وقد مرت هذه الظاهرة مرور الكرام وقتها، ولم ينتبه أحد إلى خطورة ما فعله سراج الدين حين ساعد على الدفع بوجوه تكنوقراطية كثيرة إلى وزارة الوفد الأخيرة، وقد عانى الوفد نفسه من قصر نظر هذه الوجوه وتقلب سياساتها، ثم ضجيج دعاياتها التي ليس لها أي نصيب من الصحة.
وسأضرب مثلاً واحداً وواضحاً على هذا، وهو الدكتور محمد زكي عبد المتعال باشا ذلك الأستاذ الجامعي الذي تقرر بمشورة سراج الدين أن يكون وزيراً للمالية، رغم أنه لم يكن قد تمرس لا بالوزارة ولا بالسياسة ولا بالوطنية، ولم يكن هناك ما يدعو إلى إيثاره بهذا المنصب بينما الوفد حافل بالكفايات.
وكانت النتيجة أن هذا الوزير التكنوقراطي الذي بُشر به كان بمثابة أكبر معول في محاولة هدم الوفد بعد الثورة إلى الدرجة التي ضج منها رئيس محكمة الثورة نفسه، وهو أحد أعضاء مجلس قيادة الثورة عبداللطيف البغدادي، وذكر البغدادي في حديث له في مجلة “نصف الدنيا” 1996 أنه اضطر إلى أن يحكم عليه حكماً رومانياً بإسقاط صفة المواطن عنه لما رآه من تحامله بلا مبرر علي فؤاد سراج الدين. والأدهى من هذا أن هذا الوزير “الألمعي” ترك وزارة الوفد ثم انضم بعدها مباشرة ليكون وزيراً في وزارة علي ماهر.
ولم يتوقف هذا الوزير “الألمعي” عند هذا الحد، بل إنه قبل العمل في الوزارة التالية أيضا وهي وزارة أحمد نجيب الهلالي باشا، ولم يقف عند هذا الحد أيضا، بل قبل العمل في وزارة حسين سري الأخيرة. وهذا يدلنا على مدي ما كان يتمتع به هذا الرجل من قابلية لارتداء كل الأثواب بعدما ذاق طعم الوزارة علي يد الوفد.
وفي المقابل فإننا لا نستطيع أن نجد واحداً من كبار الملاك دفع به سراج الدين إلى الصفوف المتقدمة في الوفد، بينما نجد نماذج حقيقية لكفاءات متميزة كان لسراج الدين فضل اكتشافها والنموذج الأمثل الذي يعرفه الناس لهؤلاء هو عبد الفتاح حسن باشا فهو قانوني قدير، وتنفيذي ناجح، وقد أثبت نجاحاً منقطع النظير في مراحل متعددة من حياته، وهو دليل علي أنه كان في وسع سراج الدين أن يبحث عن نماذج أكثر إضاءة من نموذج التكنوقراطيين الذي قلدته الثورة فيما بعد ذلك.
تم النشر نقلا عن مدونات الجزيرة
ولقراءة التدوينة من موقع الجزيرة إضغط هنا
للعودة إلى بداية التدوينة إضغط هنا