أبدأ هذه المدونة بداية طريفة تعتمد على علم النحو، وبدلًا من أن أبدأ بشرح المصطلح فإنني أبدأ حسب الطريقة التربوية اليابانية بعرض المشكلة. فإذا قلت «ضللت وضللني عبد الحكيم» فما هو الإعراب الذي تعطيه لعبد الحكيم؟ هل هو مفعول به للفعل الاول ام فاعل للفعل الثاني؟
هذه القضية لها باب كبير في النحو اسمه التنازع، يفسر ما ينبغي من إعراب للكلمة التي تقع تحت تأثير عاملين مختلفين متقدمين عليها من عوامل التأثير، وبلغة النحويين الاصطلاحية فإن التنازع هو أن يتوجه عاملان متقدمان إلى معمول واحد، وأبسط مثل لهذه القضية هو المثل الذي أوردته.. وهو موضوع هذا الفصل مع اختلاف الفعل (ضللت، دللت، خدعت، أحببت، كرهت، نافست، ناقشت.. إلخ). وفي مذهب أهل الكوفة يستحق عبد الحكيم النصب على أنه مفعول به، أما في مذهب أهل البصرة فإن عبد الحكيم يستحق الرفع لأنه فاعل. أهل الكوفة ينتصرون للعامل السابق، وهو عامل الفاعلية، فلا بد للفعل من فاعل ثم مفعول، وأهل البصرة ينتصرون للعامل الأقرب، فيجعلون عبد الحكيم فاعلا للفعل القريب منه وهو ضللني.
أزعم (بما هو معروف عني من غرور) أن هذا التصوير هو أدق تصوير لصراع عبد الناصر وعبد الحكيم عامر مع كل الأفعال التي ذكرناها من أفعال التضليل والتدليل والخداع والحب والكره والمنافسة والمناقشة… إلخ). ربما يصلح لمدونتنا اليوم عنوان آخر ينبني على السؤال القائل: هل كان عبد الحكيم عامر طيلة الفترة من 1954 وحتى 1967 بمثابة الرجل الثاني أم الرجل الأول مكرر.. وهو سؤال تردد كثيرًا وسيظل يتردد في كل مناقشة جادة حول الأداء السيئ للنظام الذي قام على عاتق رجلين تحابا ثم تنازعا، وقد بدأ التنازع بينهما خفية ثم تحول التنازع إلى العلن.
أبدأ الإجابة على السؤال فأقول أن عبد الناصر كان هو المستفيد الأول من مناطحة عبد الحكيم عامر على موقع الرجل الأول، ذلك أن هذه المناطحة رفعت عن كاهل عبد الناصر كثيرًا من المسئوليات التي تولاها عبد الحكيم بعاطفته وحبه للناس، تمامًا كما يفعل الأخ الثاني صاحب القدرة على أداء الواجبات الاجتماعية حين يحمل عن شقيقه الأكبر مهمة مجاملة الأقارب والأهل في كل مناسبة اجتماعية..
وقد كان هذا الدور محببًا إلى عبد الحكيم وكريهًا إلى عبد الناصر. فلما مضت الأيام واحتدم الخلاف بين الرجلين صُور الأمر على أنه صراع، وتحولت كتابات المنظرين والمتفلسفين لتلقي على عبد الحكيم عامر أيضًا بالعبء النفسي والمسئولية التامة عن هذا الصراع، وكل ما يمكن القول بأنه كان نتيجة لهذا الصراع. عند هذه الجزئية فإن من الأهمية بمكان أن نفهم أن عبد الحكيم عامر كان على الدوام ومنذ البداية طموحا إلى مركز الرجل الأول مكرر مع عبد الناصر، وربما كان السبب في ذلك راجعا إلى حجم الصداقة العميقة التي ربطت بين الرجلين، وقد كانا بالإضافة إلى هذه الصداقة يشتركان معًا في المسكن قبل الزواج، وهكذا فإن «العشرة» أيضًا قد أضافت إلى «الصداقة».
وقد كان عبد الحكيم عامر في الروايات الناصرية من أوائل الذين انضموا إلى عبد الناصر في تنظيم الضباط الأحرار، وقد شاركه قيادته في كل المراحل المفصلية، وكان دوره في ليلة الثورة منبئًا عن تقدم مكانته وعظم مسئوليته. ومع تواتر هذه الروايات فربما نجد (!!) وثيقة من التي يجدونها (!!) في تراث عبد الناصر تدلنا على أن عبد الحكيم عامر هو الذي ضم عبد الناصر إلى تنظيم ضباط لا يُعرف مؤسسه، وسرعان ما آل إليهما التنظيم، ذلك أن روح المبادرة عند عبد الحكيم تفوق روح المبادرة عند عبد الناصر.
ولكني مع احترامي لمثل هذه الآراء فإني أرى سببين محددين بعثا في نفسية عبد الحكيم عامر وعقليته هذه الرغبة في أن يكون تاليًا لعبد الناصر مباشرة أو شريكًا له في القيادة. وسأتحدث عنهما بقدر من التفصيل. فأما السبب الأول فيكمن في أن عبد الحكيم كان يحس إحساسًا كبيرًا ومبررًا بذاته في إطار وظيفته وتفوقه فيها، فهو كان قد نال ترقية استثنائية مبكرة في أثناء خدمته بالقوات المسلحة تقديرًا للشجاعة التي أبداها في حرب فلسطين 1948، وقد نقلت هذه الترقية مكان عبد الحكيم من آخر الدفعة إلى أول الدفعة، أو بعبارة أخرى إلى ما قبل الدفعة كلها. وهكذا ذاق عبد الحكيم منذ ما قبل الثورة نفسها حلاوة الترقية المبكرة وطعم السبق المبكر والألمعية، وأصبح في قرارة نفسه يعرف مردود مثل هذا التقدم على جميع المستويات المعنوية والأدبية والتعبوية والمادية والاجتماعية.. إلخ، وبخاصة في زمن كان لا يزال قريبًا من الزمان الذي كان يحترم كل التقاليد والألقاب والأسبقيات والطبقات.. إلخ.
ومن الطريف أن أحدًا من زملاء عبد الحكيم عامر في مجلس قيادة الثورة لم يكن قد نال مثل هذا الحظ على الرغم مما أذيع عنهم (أو لهم) فيما بعد من بطولات في هذه الحرب، أو على الرغم من أن بعضهم قد فاز بالفعل ببعض أوسمة التفوق أو صور التقدير.
تم النشر نقلا عن مدونات الجزيرة
ولقراءة التدوينة من موقع الجزيرة إضغط هنا
للعودة إلى بداية التدوينة إضغط هنا