ظلت مصر الحديثة في أرقامها الاقتصادية ملتزمة بالدقة البالغة حتى تغلبت دعايات السياسة (ولا نقول: السياسة) على أصول الاقتصاد والمحاسبة والإدارة بفعل ما انتهجته حكومات ثورة 23 يوليو 1952 من توجهات أو سياسات قصيرة النظر وما كانت هذه التوجهات تستسهله من أن تلجأ إلى الحلول الوقتية أو المرحلية أو بالأحرى المرحلة للمشكلات إلى مالا نهاية.
ومن ناحية أخرى فقد بدأ تزييف الأرقام في عهد الرئيس جمال عبد الناصر لأنه كان حلا سهلا لمشكلة عويصة هي الفشل المتكرر في إدارة الاقتصاد بسبب عوامل متعددة منها البعد عن أهل الخبرة وعن سياسات المصارحة وعن الأصول المحاسبية وعما نعرفه الآن بمسمى الحوكمة الرشيدة، كما كان تزييف الأرقام أيضا يمثل حلا عبقريا لمشكلة أخرى هي ضرورة التغطية على النهب المتنامي للموارد الموروثة.
وبالطبع فقد تعددت صور التزييف لكننا سنتحدث هنا عن إحدى الصور المقننة منه فحسب، وهي تلك الصورة التي انتتجت معلومات كانت كفيلة بتشويه الحقائق في تاريخنا الاقتصادي والسياسي على حد سواء. سنتحدث إذن عن بعض مظاهر التزييف الذي يمكن تبريره بخضوعه ظاهريا للقاعدة القانونية والمحاسبية رغم بعده عن الحق والحقيقة.
أول صور هذا التزييف: هو ما ينشأ عند حساب الإيرادات الحكومية حين تدرج ضمنها حصيلة بيع الأصول العقارية المؤممة أو المصادرة وبهذه الطريقة يرتفع رقم الإيرادات ومن ثم يرتفع رقم الأرباح ومن ثم تشير معدلات تقييم الأداء إلى أن المستهدف تحقق وربما بنسبة أكبر من ١٠٠٪، وبناء عليه تصرف المكافآت، وتبدو الشركة وكأنها قد أصبحت محققة أرباحا وإنجازا.. إلخ. ببساطة شديدة فان حصيلة أي بيع للأصول لابد أن تدرج ضمن الإيراد وإلا فإنها ستتسرب بعيدا عن خزينة الدولة، لكن ما يترتب على هذا الحساب ضمن الإيراد يمثل فسادا عند التدليل به كما يمثل إفسادا عند الاقتداء به.
ثاني صور هذا التزييف: يتمثل في حساب الديون والقروض والمعونات الخارجية هي الأخرى ضمن الإيرادات.. وتتكرر الصورة التي شرحناها أو لخصناها لتونا فيما يتعلق بحصيلة بيع الأصول.
ثالث صور التزييف: هو حساب البند الواحد مرتين، فأرباح شركات القطاع العام كانت تحسب لكل شركة ثم تحسب مرة أخرى في الموازنات المجمعة للمؤسسات العامة، ذلك أن هذه موازنة وتلك موازنة، وان هذه ميزانية وحساب ختامي وتلك ميزانية وحساب ختامي.
رابع صور التزييف: هو حساب أرقام الدعم الذي تقدمه الدولة للمواطنين بطريقة تتعسف في ابتكاراتها، وبخاصة في المشتقات البترولية، فيقال في الميزانية إن الدولة تدعم كل لتر من البنزين بجنيه مثلا بينما الدولة نفسها لا تبيع هذا اللتر للخارج بسعر يزيد جنيها عن سعره في الداخل إذ إن مصاريف نقله للسوق الخارجي تخصم بالطبع مما يدفعه فيه المستهلك الأجنبي.
وهكذا فإن المنَ على المواطن الذي يعيش في موطن الإنتاج بسعر موجود في بلاد أخرى بعد النقل إلى أسواق بعيدة هو نمط حاد ومفتر من التزييف الذي لا تزال الحكومات تمارسه على الشعب المصري.
نأتي أخيرا إلى سعر صرف الدولار لنشاهد على سبيل المثال بعض الناصريين واليساريين وقد استطاعوا خداع أنفسهم بسعر الصرف الرسمي في نهاية عهد الرئيس جمال عبد الناصر وكان في حدود ٤٠ قرشا للدولار الأمريكي بينما كان سعره الحقيقي فيما يسمى السوق السوداء جنيها كاملا فضلا عما كان تداوله يحمله من مخاطر، ولهذا السبب لجأت الدولة نفسها إلى ما سمته السعر التشجيعي.
وهكذا يعقد المضللون المقارنات المزورة الخاصة بانخفاض سعر صرف الجنيه عبر عصور الحكام المتعاقبين مقللين من نسبة الانهيار التي شهدها عهد الرئيس جمال عبد الناصر وذاكرين أرقاما ونسبا غير حقيقية، اندفع كثيرون إلى النقل عنها ظنا منهم أن الأرقام لا يمكن أن تصاغ على هذا النحو من الكذب الصريح بينما الأرقام المعروضة غير حقيقية.
ولو كان الأمر كذلك ما توقفت خطوط الإنتاج بسبب نقص العملة، بل لو كان الأمر بحسب الأرقام الناصرية المزيفة ما سميت العملات الأجنبية منذ ذلك العهد بالاسم الغريب والموحى الذي سميت به وهو العملة الصعبة. ومن الإنصاف أن نقول إن هذا المصطلح رغم فجاجته كان أهون على السمع من المصطلح الحقيقي وهو: العملات القابلة للتداول، ذلك أن هذا المصطلح كان يعني أن الجنيه المصري أصبح غير قابل للتداول وهو معنى موحش وقاس لكن مصطلح العملة الصعبة كان يتوقف في إيحائه عند وصف الجنيه المصري بأنه عملة سهلة.
تم النشر نقلا عن مدونات الجزيرة
ولقراءة التدوينة من موقع الجزيرة إضغط هنا
للعودة إلى بداية التدوينة إضغط هنا