كان الملك فؤاد من الذين يصدق عليهم الوصف القائل بأنه رجل دولة، كان يقدر مسئوليته ويقدر منصبه ويقدر حساسية منصبه، وكان حريصًا على أن يحتفظ بهذا المنصب لنفسه ولذريته من بعده، وكان في هذا الحرص يستلهم كل ما هو مطلوب منه من إعداد تشريعي ونفسي ومن محافظة على الصورة والانطباع. ومن الإنصاف أن نقول إن الملك فؤاد نجح في هذا كله نجاحًا كبيرًا جدًّا، فقد نأى بنفسه عن أن يدخل في صفقات تجارية أو استثمارات، على الرغم من أن سلفه الحقيقي كان متورطًا في هذا التوجه على الرغم من نجاحاته التنموية التي لا جدال فيها، ونحن نقصد بسلفه الحقيقي الخديوي عباس حلمي باعتبار أن السلطان حسين كامل لم يلبث في المنصب إلا قليلًا وأثناء الحرب. وقد كانت للخديوي عباس حلمي مشاركات واسعة في استثمارات متعددة منها خط سكة حديدية ومنها عقارات وعمارات الخديو وأرض زراعية وتفتيش زراعي هنا وآخر هناك.
وكان الخديوي عباس حلمي يحرص على أن يقنن تصرفاته، ومن ثَم فقد حدثت احتكاكاته بمن لم يوافقوا تمامًا على رغباته أو على ما اقترحه من صيغ لتقنين تعامله المالي مع الدولة، ومن هؤلاء الشيخ محمد عبده على سبيل المثال، لكن الملك فؤاد كان حريصًا جدًّا في هذه النقطة على الرغم مما يقال ويتكرر بشيء من المبالغة من أنه كان قبل توليه الملك مدينًا ومفلسًا أو غير قادر على سداد كثير من ديونه وكثير من تصرفاته. نعرف أن الملك فؤاد سلك السبيل اللائق في ثروة زوجته الملكة نازلي، فوجهها مثلا إلى شراء أسهم في شركة قناة السويس ضمن المصريين الذين بدأوا في عهده في شراء هذه الأسهم؛ لتعود القناة إلى ملكية المصريين، وقد نجح في هذا التوجه نجاحًا وئيدًا ومحسوبًا حتى إن أسهم المصريين في القناة ومنها أسهم الملكة نازلي وصلت إلى 44% عند التأميم في 1956.
كان الملك فؤاد، رغم انتمائه للأسرة الحاكمة، يؤمن بضرورة خلق طبقة جديدة من ملاك جدد ولهذا فإنه شجع بكل الطرق على تمليك الأراضي المستصلحة حديثًا لملاك جدد من ذوي المؤهلات الزراعية القادرين على تنمية المشروعات الزراعية بذكاء وخبرة وحب لثروتهم وقيمتهم في المجتمع، وربما أن مصر لم تشهد عناية حقيقة باستصلاح الأراضي الجديدة على نحو ما حدث في عهد الملك فؤاد، ولم يكن غريبًا أن تسمى مصر مديرية جديدة باسم الملك فؤاد عند وفاته؛ لأنه كان صاحب أكبر فضل في تشجيع سياسات استصلاح هذه الأراضي في شمالي الدلتا، وهي الأرض التي نعرفها الآن على أنها محافظة كفر الشيخ، والتي كانت قبل ذلك قد سميت بمديرية الفؤادية نسبة إلى الملك فؤاد ولم تتم هذه التسمية في عهده وإنما بعد وفاته. ومن المهم أن نشير إلى أن هذه المديرية (المحافظة الآن) تشمل بلدانًا كثيرة قديمة كانت تابعة لمحافظة (مديرية) الغربية، ومنها القرية التي ولد فيها الزعيم سعد زغلول والتي تنتمي إليها عائلته، لكننا نتكلم على المحيط الواسع من الأرض الزراعية المستصلحة فيما كان يعرف تحت أسماء متعددة ودالة مثل “البراري” على سبيل المثال.
تميز الملك فؤاد بمستواه الثقافي الرفيع، ولعله أكثر تميزًا من حكام الأسرة العلوية جميعا بمن فيهم والده الخديو إسماعيل الذي كان قد تخرج في مدرسة الهندسة (السنترال) في باريس، وبمن فيهم ابنه الملك فاروق. يتميز الملك فؤاد عن ابنه الملك فاروق وعن والده الخديو إسماعيل بأنه عاش سنوات شبابه في نضج ثقافي ومعرفي وحضاري مكنته منه البيئة المدنية العامة خارج القصور الملكية، ومن ثم فقد عرف معنى الحياة كما عرف معنى العلم ومعنى الحضارة وتذوق هذا كله، كما عرف القراءة، وعرف الاستماع وعرف مناقشات العلماء ومجادلاتهم، وعرف رأيهم في بعضهم البعض، فإذا قارنت هذا بالملك فاروق الذي تولى الملك وهو دون السادسة عشرة أو بالخديو إسماعيل الذي تولى الحكم وهو في الثالثة والثلاثين (تولى الملك فؤاد الملك وهو على مشارف الخمسين)؛ فإنك تستطيع أن تتصور صورة الرجل الناضج سيكولوجيًّا ومعرفيًّا وحضاريًّا، وهي متاحة للملك فؤاد قبل غيره.
وكان الملك فؤاد في ممارساته الثقافية يعرف حدود العلم وحدود الإعلام (أو الدعاية أو البروباجندا)، ومن الإنصاف أن نذكر أنه كان ينتصر للعلم لا للدعاية. وحين أراد أن يسجل تاريخ والده واستقدم لهذا الغرض كاتبا أوروبيًّا مشهودًا له بالتأريخ المتميز؛ فإنه لم يلزم هذا العالم بتقديم منتج دعائي، وإنما أتاح له الفرصة العظيمة التي جعلت هذا الكاتب الشهير إميل لودفيج يؤلف كتابه عن نهر النيل بفضل منحة الملك فؤاد. ومن الإنصاف أيضًا أن نشير إلى أن الحكم العسكري لمصر طيلة ستين عامًا لم يتح أية فرصة شبيهة لأي مؤرخ أوروبي مكتفيًّا في العهد الناصري بالدوران حول محور إلهام عبد الناصر ومكتفيًا في العهد الساداتي بما تبرع له محبون لمصر من رجال العلم والحضارة، وتاركًا الأمر في العهد المباركي على حباله تمامًا.
كان الملك فؤاد قادرًا على إنشاء المؤسسات على النحو الذكي القابل للخلود، ولذلك فإنك تستطيع أن تلمح حقيقة مهمة وهي أن أعظم المباني الحكومية المصرية قد بنيت وشيدت في عهد الملك فؤاد، كما أن أعظم المؤسسات الحكومية المصرية قد تأسست وبدأت في عهد الملك فؤاد، على الرغم مما انتاب هذه المؤسسات من التطوير أو الانحطاط بعد ذلك، وقد شهدت مصر في عهد الملك فؤاد عناية حقيقية بالمباني الفنية، ولعل دار الأوبرا في دمنهور تدل دلالة قاطعة على ما كانت مصر تقدمه من طرز متميزة لا تحرص على الضخامة ولا على الفخامة الحضارية وإنما تحرص على الجوهر والتميز والوظيفة واللمسة التي تضيف إلى اسم مصر، وقد مثل هذا في كثير من المسارح والمؤسسات الفنية والمتاحف… إلخ. كانت المساحة الواسعة المتميزة التي تضم دار الأوبرا (اليابانية) في جنباتها الآن تسمى أرض المعارض، وقد أقيمت عليها مباني الجمعية الزراعية والقبة السماوية ومتاحف متعددة للحضارة والفن، ولا نزال مهملين في العناية بهذا التراث العظيم الذي تركه عهد الملك فؤاد.
تم النشر نقلا عن مدونات الجزيرة
ولقراءة التدوينة من موقع الجزيرة إضغط هنا
للعودة إلى بداية التدوينة إضغط هنا