أبدأ بالإشارة إلى أن هذا المقال يعرض القضية عبر قصة حقيقية حافلة بالدراما،سنتجنب رسم بعض تفاصيلها العاطفية والانفعالية، لأن ملامحها الفكرية -التي سننقلها بأمانة- تنبئ بها بكل وضوح.
عرفت فصول هذه القصة على مدى سنوات؛ ففي بداية السبعينيات كان الشبان المصريون إذا رُزقوا فرصة للهجرة إلى خارج مصرانتهزوها للخلاص مما كانوا يعتقدون أنه معاناة بسبب التجنيد الإجباري، الذي كان يستولي على أبناء الوطن في عنفوانهم فيتركهم بلا عمل حقيقي إلا اليأس والبكاء على اللبن المسكوب في ١٩٦٧.
لم يكن أغلب الذين يفكرون هكذا يصدرون عن خيانة أو نقص في الوطنية وإنما عن حب للنفس واستبصار للواقع، ومن هؤلاء كثير من الذين يحتلون صدارة المجتمع الآن في مجالات لا توحي لمن يشاهد نشاطهم بأن يفكروا في أن هؤلاء هربوا من مصر هروبا من التجنيد الإجباري.
ولم يعودوا إليها إلا بعد صدور قانون في ١٩٧٩ يسوي أوضاعهم بدفع الغرامة مع استبقاء بعض العقاب، من قبيل ألا يُدرجوا في قوائم تعيين الخريجين في وظائف الحكومة، وهي الميزة التي كانت يُشترط للحصول عليها أداء الخدمة العسكرية أو الإعفاء منها.
أذكر من هؤلاء فنانا كانت موهبته قد بدأت في الظهور، فلما استوت -وهو في الخارج- قرر أن يرتبط بإحدى جاراته في مصر فسافرت إليه، وأتما الزواج خارج الوطن على أن يعود إلى مصر بعد أن تذهب لجنة تسوية الأوضاع إلى أوروبا وتبرئ ذمته بحيث لا يتعرض للقبض عليه في المطار حين يعود إلى مصر.
أتيحت الفرصة لأحد أبناء الطبقة المتوسطة الذين أتموا دراستهم الجامعية لتوهم للذهاب إلى فرنسا، ففكر في ألا يعود ولو اعتُبر هاربا من أداء الخدمة العسكرية، ولم يكن يعرف الفرنسية لكنه سرعان ما تعلمها، ولم يكن يملك من مهارات الحياة السريعة إلا قيادة السيارات فآثر أن يعمل من فوره سائقا لسيارات التاكسي.
وسرعان ما أحب فتاة فرنسية ففضل أن يتزوجها، لكنه وجد أن جنسيته المصرية تمثل عائقا في الثقة به، ففضل أن يمزق جواز سفره نهائيا. ولما كان سيبدأ حياة جديدة باسم يحدده هو؛ فقد آثر أن يتسمى باسم مسيحي قحّ مع أن اسمه الأول كان اسما محايدا يستعمله المسلمون والمسيحيون واليهود، ثم غيّر دينه إلى الكاثوليكية.
ومضت السنوات؛ وأصبح هذا الرجل مع مرور السنوات نموذجا للانسلاخ الكامل، خاصة أنه ترك تربية بناته كلية لزوجته وأهلها.
بعد عشر سنوات من هذا التحول الذي لم يكن أهله في مصر قد عرفوا عنه شيئا، في عصر كان يعتمد على البريد فحسب؛ طلبت منه والدته أن تزوره هي لأنها أحيلت على المعاش، ومن ثم فإن أولى أولوياتها أن تزور فلذة كبدها.
وجاءت السيدة العجوز (بلغة بداية ثمانينيات القرن الماضي) فأقامت مع ابنها وزوجته وبناته شهرا كاملا في الصيف، لم تحس فيها بوطأة الانسلاخ الذي أتمّه ابنها ولا بلمحة منه، وساعدت الظروف على هذا؛ فهي نفسها لم تكن محجبة لكنها كانت تصلي الفروض الخمسة، لكنها كانت تفعل هذا في سلاسة لا تُفقد الحياة المنزلية لحفيداتها رتابتها الطبيعية.
ولم يحدّثها ابنها بأنه غيّر دينه ولا اسمه ولم تلحظ هي ذلك، فقد جعل -لسبب جاء بالمصادفة المحتملة- لقبه في اسمه الجديد هو اسم جده، الذي كان هو اسمه العائلي في مصر، وهكذا تقبلت أمه الأمر دون سؤال لأنها كانت تعرف أن الفرنسيين والغربيين يتعاملون باسم العائلة.
وزادت الأقدار من توفيق الأوضاع فلم تكن الزوجة ولا البنات ينادونه أو يخاطبونه باسمه المسيحي المستحدَث، وإنما كانوا يخاطبونه من باب التدليل باسمه الأول الذي عرفته به زوجته حين تحابّا وارتبطا قبل أن يغيّر اسمه ودينه.
عادت والدته إلى مصر وهي لا تعرف أن ابنها قد صار مسيحيا، وتسمى رسميا بغير الاسم الذي أعطته له يوم مولده؛ وبعد ثلاثة أشهر من زيارتها لفرنسا كان ابنها قد أصبح فرنسيا كامل الفرْنَسة وحصل على جواز السفر الفرنسي، لكن هذا لم يغير من الأمر شيئا لأنه لم يفكر في العودة إلى مصر ولو من باب الزيارة.
لم يكن الرجل قد انخرط في أي نشاط ديني أو اجتماعي يدل على كاثوليكيته، لكن بناته بدأن يترددن على الكنيسة بصورة غير منتظمة مع والدتهن أو بدونها.
وذات مساء إذا بهذا الرجل الذي تماهى بنفسه مع الحياة الفرنسية وترك لأجلها كل ماضيه؛ يجد نفسه أمام مفاجأة لم يكن يتوقعها بأية صورة من الصور، فابنته الكبرى التي أصبحت على مشارف السابعة عشرة تريد أن تعتنق الإسلام، وكذلك -وإن بدرجة أقل- أختها وإن كان سنها لا يسمح لها بأن تتخذ قرارها بمفردها.
كان مضي السنوات قد صقل شخصية الرجل بحيث يعطي لنفسه الفرصة في التفكير المتمهل، قبل أن يتخذ قراره تجاه أي وضع مفاجئ؛ فما بالك بأن تصل المفاجأة إلى هذا الحد؟ إنه لا يحتاج التفكير فحسب بل يحتاج إلى معجزة.
ألخص للقارئ في السطور التالية ما انتهت إليه المناقشات التي حفلت بها الاستشارات النفسية والاجتماعية، التي اضطر إليها صاحب هذه القصة:
– لماذا تريد أن تحرم ابنتيك من أن ينالا حقا حصلتَ عليه أنت نفسك؟ أنت غيرت دينك بإرادتك وهما تريدان ذلك أيضا!
– لماذا تحكم على خطوتك بأنها كانت خطوة مربحة ومصعّدة اجتماعيا وماديا ولا تتصور الشيء نفسه فيما يتعلق بهما؟
– لماذا تفرض على البنتين رؤيتك للحياة بينما يبدو من روايتك أن أحدا لم يفرض عليك رؤيته للحياة؟
– لماذا تتصور أنك ضحيت من أجل ألا ترى هذا اليوم ولا تتصور أن أبويك قد أحسّا بنفس الإحساس؛ فلم ينفعلا عليك منذ قررت الهجرة وما بعدها؟
– لماذا تزعم أن ابنتك في سنها هذه قاصرة بينما تعترف أنت بأن عقلها في هذه السن أرجح من عقلك يوم اتخذت قرارك بتغيير هويتك؟
– لماذا ظللت تُخفي عن ابنتيك دينك الأصلي وهويتك الأصلية مع أنه كان من حقهما أن تعرفا؟
– لماذا لا تفخر بأن البنتين تمتعتا بالشجاعة فصارحتاك على حين افتقدتها أنت فأخفيت الأمر عن والديك؟ أليس هذا مما يدعوك إلى أن تعرف أنهما في اختيارهما تنطلقان من موقف أقوى من موقفك؟
– كيف تزعم أنك تؤمن بالعلمانية أو اللائكية ثم تشغل بالك بخروج ابنتيك من دين إلى دين؟
– لماذا تفترض أن بقاءهما كاثوليكيتين يمثل مصلحتهما المضمونة، ولا تتقبل فكرة أن اعتناقهما الإسلام يمكن أن يفتح لهما أبوابا لا تقل أهمية؟
– إذا كنت مقتنعا بالكاثوليكية حقا فلماذا لم تمارس شعائرها مع زوجتك وابنتيك؟ وإذا لم تكن مقتنعا بها فلماذا تحول بين ابنتيك وبين تركها؟
– لماذا تخشى أن تتحول أمهما هي الأخرى إلى الإسلام؟ وما هو الضرر الذي سيصيبك إذا قبلت هي الاستمرار معك كزوجة لأنها موقنة تماما بأنك لا تزال مسلما؟
– لماذا تنظر إلى حياتك الماضية منذ غيرت هويتك على أنها استثمار، وعلى أنك لا بد أن تمضي في ذلك الاستثمار إلى نهايته؛ مع أن هذا الاستثمار فاجأك بإنجازات أو مكاسب لم تكن تحلم بها، أو بعبارة أدق لم يكن الأنسان الطبيعي من أندادك يحلم بها على هذا النحو؟
– لماذا تعتبر نفسك محور الأسرة ولا تترك الأمر لزوجتك التي ربت البنات والتي جعلتك أنت نفسك تغيّر هويتك؟
– لماذا لا تستكمل مقومات هويتك الجديدة وأول عناصر هذا الاستكمال أن تتخلى عن هذه الروح البطريركية في ربوبية الأسرة؛ حتى ولو كنت كاثوليكياً؟
من الواضح أن بعض هذه الأسئلة النقاشية صدرت عن مستشارين ومعالجين لم يخبرهما الرجل بكافة التفاصيل، ومن الواضح أنها لم تُجدِ نفعا؛ لكن الأمور في النهاية مضت في سبيلها الطبيعي، فأسلمت الابنتان ولحقت بهما والدتهما وشقيقتهما الثالثة؛ أما الوالد ففارقهما خمس سنوات عاش فيها معذِّبا لنفسه، ومعتنيا بهندامه حتى لا يبدو أنه يعاني من ذُهان أو قلق.
وقد ركبه الغرور فصرفه عن أن يعود إلى بيته؛ فعاش وحيدا وبعيدا ومغامرا في حدود منضبطة لأنه لم يكن ليتحمل الفشل.. حتى كان اليوم الذي ذهبت فيه إليه أسرته جميعا، مصطحبين معهم أولى حفيداته بعد أن أتمت من عمرها أسبوعها الأول، وقد صمموا جميعا على أن يسموها باسم والدته بنطقه العربي!
في تلك الساعة؛ قال الرجل -وهو لا يزال على عناده- إنه سيأخذ بمنطق الديمقراطية وسيحترم الأغلبية، دون أن يعني هذا أنه سيستعيد الهوية.
في الواقع؛ كلما رأيت خطوات الإمارات المتعجلة في سبيل استبدال هويتها تذكرتُ ملامح هذه القصة، التي بدأت الاتصال بفصولها من مشهدها الثاني؛ حين تسمى بطل القصة بالاسم المسيحي.
وكان صهره وقريبه -الذي كان زميلا لي في الطب- يضع يده على قلبه خوفا من لحظة الذروة في المسرحية إذا سألته الأم عما حدث، أو قررت -على نحو ما كان يتوقع- أن تقاطع ابنها أو تدعو عليه، لكنني قلت لزميلي إن الله جل جلاله عادل ولذا لن تدفع الأم ثمن الخطأ الذي ارتكبه ابنها، وإنما ستمضي الدراما في التصاعد حتى يكتوي هو نفسه بما فعله.
كان زميلي يستبشر بي لكنه ظل قلقا من لحظة مواجهة الحقيقة حتى عادت أم بطل المسرحية إلى القاهرة بسلام؛ فتنفس الصعداء. وظل زميلي يواليني بفصول وتفصيلات هذه القصة على نحو ما حدثت، وهو سعيد بأن شخصية ونفسية قريبه وصهره -الذي هو الإمارات في حالتنا الراهنة- هي التي تعذبت وعانت وتمزقت، ودفعت الثمن من رعونة الفكر الذي تنكر للهوية فلاحقته الهوية من حيث لم يحتسب.
تم النشر نقلا عن موقع الجزيرة نت
ولقراءة المقال من موقع الجزيرة إضغط هنا
للعودة إلى بداية المقال إضغط هنا