توالت في الأسابيع الماضية ردود الفعل السياسية تجاه ما ظنته قوى كبرى (والدائرون في فلكها عن إيمان أو طمع) وضعا ممكن القبول، بفضل سياسات الغطرسة التي تتخطى حقائق التاريخ والجغرافيا، لتخلق أو تستحدث واقعا يستند في وجوده إلى عاملين متآزرين هما: قوة السلاح وغرور هذه القوة.
بل إن العلو والغلو اللانهائييْن قد سوّلا لأصحاب هذه القوة أن يصادروا إنسانية وهوية أصحاب الحق الأصلي، فيصفوهم بصفات تستوجب بالتبعية تجريمَهم في الوقت الذي يستحقون فيه كل مظاهر التأييد.
ولم يكن هذا النزق المتغطرس بحاجة إلى أن يحظى بتعاون وتأييد أو تصفيق من بعض إخوة المظلومين المتنكرين للأخوة بل وللإنسانية نفسها؛ لكن بعض هؤلاء الإخوة ظنوا أن تأييدهم للقوي يعطيهم القوة حتما، على حين أن وقوفهم مع المظلوم يمهّد لتحولهم إلى مظلومين.
ولما كانوا -بحكم الوراثةوالعائلة- قد نشؤوا على تعشق القوة وحب النفوذ؛ فإنهم آثروا -بمعادلة سياسية بسيطة- أن يكونوا مع الظالمين حتى لا يكونوا من المظلومين.
وقد أوحت لهم هذه المعادلة البسيطة بأن مكانهم محصور بين هذا الصف وذاك، ولأنهم لا يتصورون أنفسهم مجاهدين أو متأزمين؛ فقد سارعوا إلى تبني فكرة الزهو بأنهم أثرياء ظلمة وليسوا وطنيين مكافحين، وبأنهم يحبون الظلم ويؤيدون الظالم مهما كان ظالما، بل إنهم -من باب التوكيد والتجويد- بدؤوا يصطنعون للمظلوم صفات غريبة ليست فيه، كي يبرروا للظالم ظلمه للمظلم.
وبصرف النظر عن السقوط الأخلاقي في هذا المسلك المعوج؛ فإن التصنيف السياسي له لا يخرج به عن دائرة الفشل السياسي أيضا، ذلك أن السياسة فن الممكن وليست فن التبعية، كما أنها فن التفاوض وليست فن الإقرار. هذا فضلا عن أن السياسة -في جوهرها- تمثل محاولة دائبة للفوز والتحقق، وليست نقطة في نهاية السطر على نحو ما تريد إيماءات وجوه الظالمين أن تقوله.
والحق أن الصورة التي ظهرت بها ردود فعل الشعوب العربية كانت مفاجئة تماما لمعسكر الانحياز لإسرائيل، فها هي الجماهير المؤمنة بالحق تفتدي وطنها وإرادتها بالروح وبالدم عن يقين وإيمان، وتفعل هذا من دون مساومة أو ترتيب.
وها هي المشاعر الصادقة تلطم كل عناصر القوة الظالمة الغاشمة على نحو غير قابل للتأجيل ولا للتبريد؛ وها هي عقليات عربية من مستويات مختلفة تعبّر عن ردود فعل إيجابية لا تتوافق مع ردود الفعل السلبية التي بنت الإمبريالية حساباتها عليها.
ومن الإنصاف أن نذكر أن المملكة الأردنية الهاشمية كانت ميدانا من الميادين الرحبة التي اتسعت للتعبير الحي عن جوهر المشاعر الحقيقية تجاه فلسطين والقدس. ولم يكن هذا الوضوح والحسم في رد الفعل الأردني المقاوم للظلم والرافض للمنطق المساند له غريبا على شعب الأردن الناضج سياسيا وعروبيا.
لكنه مع هذا بدا غير متوقع عند مَنْ أقاموا حساباتهم على أن محور الاعتدال -كما يسمونه- سيميل إلى العمل المكثف، من أجل التوافق مع سطوة صاحب القوة حتى ولو كان ظالما، وسيتخلى عن مقاومة الظلم حتى ولو لم يكن الظالم قويا.
ومن الجدير بالذكر والفهم هنا أن الذين تبنّوا هذه الرؤية البراغماتية كانوا أصلا من الذين لم يُعرف عنهم طول باع، لا في السياسة ولا في الوطنية ولا حتى في الدبلوماسية أو التكنوقراطية؛ وإنما كانوا من طبقة حكام جدد متطلعين.. بدؤوا يُعلون من شأن الصفقات وفكرها.
وهم يعملون من أجلها بطريقة الصف الثاني من طبقة رجال الأعمال الذين يوظفون العلاقات والمساومات بكل ما هو ممكن، في سبيل تحقيق الغايات بأسرع معدل من معدلات التنفيذ الذي لا يُلقي بالاً لكل ما يحيط بالتنفيذ الصارم من التعدي على المشاعر الإنسانية.
هكذا -وبدون تعميق للمقدمات- كان معسكر القوة الغاشمة يضطر نفسه بسرعة بالغة إلى اللجوء لسياسات المقايضة الواسعة النطاق، والتي تشترط الالتزام بمواقف سياسية تضمن تحقيق الأغراض الصهيونية والإمبريالية، وإلا فإن سطوة رأس المال كفيلة بإسقاط النظام الذي لا يقبل بالمشاركة في التبعية.
ورغم أن الطرح السياسي لهذه الفكرة كان يستجلب رفضها تلقائيا ومن دون لجوء إلى قدح للذهن أو عصف للأفكار؛ فإن هناك ملاذا آمنا -وإن كان شريرا- كان في وسع الفكرة الجهنمية أن تسلكه، من أجل إجبار صاحب القرار على التنازل عن الثوابت والخضوع لتيار الاستسلام المريح.
وقد تمثل هذا الملاذ الشرير فيما تستطيع السلطات المالية الدولية أن تؤثر به على حالة الاستقرار المجتمعي المساندة للاستقرار السياسي، الذي تعتمد عليه كل سلطة في قبولها وقدرتها واستمرارها.
ومع أن هذا يبدو من الأمور المسلم بفعاليتها؛ فقد كان الضمير الإنساني من الوعي الحصيف بحيث أدرك مبكرا أن السلطات المالية لصندوق النقد الدولي تستلزم -بصورة قطعية- نوعا من التنازل الجزئي عن السيادة السياسية للدولة.
أي أن الذين يربطون مقدراتهم الاقتصادية بدعم صندوق النقد الدولي أو إقراضه أو مراقباته؛ يحكمون على أنفسهم -بطريقة ما- بالتنازل عن بعض سيطرتهم القابضة على مجريات السياسات النقدية والمصرفية والضرائبية… في بلادهم.
ومن الإنصاف أن نعترف بأنه كانت هناك حدود آمنة في هذا السياق، لكن الإنصاف نفسه يجعلنا أيضا لا ننكر حقيقة تاريخية مهمة، وهي أن حالات المخاطر والتذبذب والتقلب -بل والانقلاب- فاقت في مجموعها أضعاف الحالات الآمنة.
بيد أن خطورة الهيمنة الدولية على اقتصاديات الدول النامية كانت تأتي غالبا من أصحاب القرار الاقتصادي، الذين تتوجه عنايتهم -في المقام الأول- إلى ضبط الموازنات والميزان التجاري وميزان المدفوعات، وتقليل نسب التضخم وزيادة معدلات النمو وارتفاع معدلات الكفاءة والملاءة المصرفية… إلخ.
وفي المقابل؛ فإن حركيات التلاعب بمقدرات الشعوب وجدت -على مدى العقود الماضية- مزيجا غير متجانس من قدرة القرارات “غير الاقتصادية” على التأثير في السياسات الاقتصادية، من خلال الإيحاء بحتمية تدخل الحكومات بسياسات مجحفة بجموع المواطنين لرسم صورة وردية للمستقبل، دون تقديم أي ضمان على أن هذه الصورة الوردية قابلة حتما للتحقق.
وهنا تنحصر مهارة النُّظُم السياسية في توظيف عملية التفاوض مع سلطات البنك الدولي، من أجل العمل على تأجيل قرارات الالتزامات بكل ما هو ممكن، أو توظيف اللغة السياسية -من ناحية أخرى- في تحوير الارتباطات من مفهوم إلى آخر، بما يضمن مزيدا من الفسحة في الوقت للبعد عن المواجهات المؤذية لسياسات الدول النامية أو لاستقرارها.
وفي السنوات الأخيرة؛ ظهر توظيف مكثف لعامل قديم لم يكن يُمارَس بمثل ما أصبح يمارس به الآن، وهو التدخل الأميركي السافر الذي يستند إلى حقيقة تشريعية واقعية مهمة، وهي أن رئيس الولايات المتحدة الأميركية هو في واقع الأمر -بحكم منصبه- رئيس مجلس إدارة صندوق النقد الدولي، على حين أن من يشغل منصب مدير الصندوق هو رجل تنفيذي فحسب.
من هذا المنطق (الدولي/التكنوقراطي) كان رهان قيادتيْ القوى العربية الجديدة المعروفة بسعيها الحثيث للتخلي التام عن الهوية، فيما وجدت نفسها أمامه من مواجهة غير متوقعة مع الأردن في موقفه الشامخ.
وقد انصبّ هذا الرهان على قدرة الأداة السياسية للقيادتين المتحالفتين على إحداث مظلة إعلامية، من تعبير يصور على أنه تصعيد في غضب الشارع من إجراءات حكومية غير متقبلة، لتكون بمثابة الخطوة الثالثة بعد الخطوتين الأولى (التي هي ضغوط حاسمة من صندوق النقد الدولي) والثانية (التي هي استجابة اضطرارية من مسؤولي الحكومة والخزانة الأردنية التكنوقراطيين).
وكان تقدير القيادتين العربيتين المتحالفتين أن هذه الخطوات الثلاث ستؤمّن -بشدة وفعالية- وضعا حتميا لانقلاب أردني، سرعان ما سيُلحق الأردن بمجموعة الدول الفاشلة، التي أدخلتها نخبها المتعسكرة في نطاق الملاعب الخلفية للسياسات القاصرة، التي تتصور نفسها قادرة على ما لم تنجح فيه الإمبراطوريات الكلاسيكية من قبل.
لكن الوعي السياسي للشعب الأردني كان أقوى بكثير من رياح الخماسين السياسية، التي حاول أعداء الأردن والهوية أن يصوروها انفراطا لعقد من الاستقرار الإيجابي القابل للتطور والارتقاء.
تم النشر نقلا عن موقع الجزيرة نت
ولقراءة المقال من موقع الجزيرة إضغط هنا
للعودة إلى بداية المقال إضغط هنا