قرأ الناس أخبار المأساة التي قتلت فيها الفنانة ذكرى، وقتل معها في هذه المأساة زوجها السويدي الذي قيل إنه انتحر بعد أن قتلها وقتل مدير أعماله وزوجة مدير أعماله اللذين كانا فيما صورته الصحف يحاولان إصلاح الأمر بين الزوجين. كانت المفاجأة غير السارة لي أن يكون هذا القتيل المظلوم الذي قتل بالمصادفة ابنا لأحد كبار ضباط الثورة الذين عرفتهم وهو الدكتور حسن صبري الخولي.
أرجو الله أن يوفقني بمشيئته إلى أن أصور بعضا من حياة هذا الرجل المهم الذي عاش في الأضواء والظل معا أو عاش في أضواء الظل إذا أردنا تعبيرا دقيقا. أبدأ بأن أنقل ما رواه زوج خالة الأمير الوليد بن طلال وهو الصحفي العربي الكبير الأستاذ ناصر الدين النشاشيبي في وصف حسن صبري الخولي كممثل للرئيس عبد الناصر والحديث عن بعض أدواره غير المعروفة:
“……. من بين الشخصيات التي استعان بها جمال عبد الناصر في ممارسة السلطة، والزعامة، يبرز اسم الدكتور حسن صبري الخولي، الممثل الشخصي للرئيس المصري.. الراحل! وكان الدكتور حسن صبري إنساناً طيب القلب إلى حد السذاجة، يحب المجاملة ويكرر السؤال عن الصحة والأحوال، ويأسر الناس بالكلام الحلو من طراز: معلهش.. وعشان خاطري.. وليه لا؟.. وكلنا أهل!! وربنا يتمم بخير.. «إلى آخره»!
وكان أيضاً، وأيضاً، يعرف محمد حسنين هيكل جيداً! جيداً! وكان أيضاً يحب أمريكا.. كثيراً! وقد عرفت حسن صبري الخولي كمراقب للأخبار، ثم مدير للمطبوعات، ثم ممثل لعبد الناصر، كما عرفته قبل أن يحصل على لقب الدكتوراه من جامعة القاهرة (نقول بين قوسين من جامعة الأزهر)، وبعد أن أصبح يزهو تيها وفخراً عندما يسمع أحداً منا يناديه.. «يا دكتور حسن!».
وسمعته قبل حرب الأيام الستة (1967) وهو يلقي محاضرة في نادي الضباط المصريين عن «احتمالات» الحرب بين مصر وإسرائيل وأنهى خطابه مخاطباً الجنود والضباط بكل صراحة ووضوح.. وثقة:
ـ إلى اللقاء القريب معا.. في تل أبيب! ألم أقل لكم أن حسن صبري الخولي امتاز بطيبة القلب وحسن النيات؟
ولم يكن يمضي يوم من دون أن أسمع صوت حسن صبري الخولي وهو يطلبني من مكتبه المقابل لمقر الرئيس المصري في منشية البكري، أو من أحد مكاتب زملائه الوزراء لكي يبلغني خبراً أو يسألني عن خبر.. أو يحلل ـ على طريقته الخاصة ـ خبراً من الأخبار! وما أكثر الأخبار التي كنت أسمعها من صديقي حسن صبري الخولي!
وما زلت رغم مرور السنين أذكر أن الخولي طلبني تليفونياً في ذات مساء وسألني أن أتفق مع محافظ القاهرة السيد صلاح دسوقي على توجيه دعوة رسمية من المحافظ المصري إلى المستشار الألماني «ويلي براندت» رئيس بلدية برلين، ووزير الخارجية، ثم مستشار ألمانيا الغربية في اواسط الستينات لزيارة القاهرة ومقابلة عبد الناصر!
وكان «ويلي براندت» ولداً زنديقاً لم يعرف أحد من هو والده الحقيقي، ولكنه استطاع أن يحمي القطاع الغربي من برلين من سيطرة الشيوعيين وأن يقف ذات يوم، وإلى جانبه الرئيس الأمريكي جون كنيدي على شرفة مبنى بلدية برلين وأن يسمع العالم صوت رئيس أمريكا وهو يقول للآلاف من المواطنين المحتشدين في الساحة وللملايين في أنحاء العالم الخارجي:
ـ أنا منكم! أنا من هذه المدينة! ثم يقولها باللغة الألمانية الصحيحة:
ـ أنا برليني! ويكرر العبارة مرة بعد مرة!
وقد أحببت «ويلي» براندت بعد عدة مقابلات أجريتها معه في برلين ثم في «بون» ثم في القاهرة عندما جاء إليها تلبية للدعوة التي وجهها إليه صلاح دسوقي، والتي كان لي الشرف في المساهمة بنجاحها وإتمامها وتنفيذها! وكنت أعرف مدى الغرور الذي يستبد بشخصية «ويلي براندت» ويجعله فخوراً بنفسه ومعتزاً برأيه.
وكان دوماً يتشبه بالرئيس الأمريكي جون كنيدي وكنت دوماً أردد على مسامعه قولي له:
ـ أنت أعظم من جون كنيدي. وأنت قمة النجاح الدبلوماسي والسياسي والشعبي! إن شبابك يوحي بالثقة. إن عنادك يؤثر في الشعب! إنك شجاع وجريء وخطيب، وساحر! ويقاطعني ويلي براندت قائلاً بكل غرور:
ـ هذا صحيح نعم.. وبالألمانية: ياه.. ياه!.
ثم يمد ساقيه فوق طاولة خشبية صغيرة ويشعل السيجار ويقول بصوت عال وهو يضغط على كل حرف من حروف كلماته:
ـ عال.. عال.. أنا مستعد للسفر إلى مصر.. وأن ألبي دعوة محافظ القاهرة.. وسأقابل عبد الناصر.. ولكن بلا شروط منكم ولا أية احلام مني! ثم يعود إلى كلمة «أحلام» ويقول لي بنبرة عالية:
ـ نعم بلا أحلام! أنتم تريدون منا عدم الاعتراف بدولة إسرائيل. ونحن نريد منكم عدم الاعتراف بأولبرخت أو بألمانيا «الشرقية»! وسنحاول الوصول إلى تفاهم! حسناً.. أنا مستعد أن أسافر إليكم بعد أسبوع واحد.. ماذا تقول؟!
وعلى الفور أبرقت إلى حسن صبري الخولي.. الذي أجرى اللازم مع المحافظ الدسوقي، وجاء «ويلي براندت» إلى حفل العشاء الكبير الذي أقامه على شرفه محافظ العاصمة، ودخل إلى القاعة في قلب مصر وكأنه «بسمارك» الجديد، أو «فون هندبرج» أو «أدولف هتلر» في عز زمانه!
تم النشر نقلا عن مدونات الجزيرة
ولقراءة التدوينة من موقع الجزيرة إضغط هنا
للعودة إلى بداية المقال إضغط هنا