راغب مفتاح واحد هو ثالث ثلاثة من الأقباط المصريين كان لهم (في رأيي) الفضل في الحفاظ على مظهر الهوية القبطية، الأولان هما واصف سميكة رائد الآثار القبطية ومؤسس المتحف القبطي وبسنتي رزق الله أستاذ اللغة القبطية. أما هذا الرجل فقد تمكن من أن يكون صاحب الفضل الأوفى والأول في الحفاظ على الشكل العام لتراث الموسيقى القبطية من خلال جهده الدائب في المحافظة على الألحان والنصوص القبطية بتسجيلها صوتيا وموسيقيا، بعدما أدركها وهي تتوارث بالتواتر من الأجيال السابقة.
ولد راغب مفتاح في 12 ديسمبر سنة 1898 وكان واحدا من عشرة أبناء، و بعد أن تلقى التعليم المصري المتميز سافر إلى ألمانيا في سنة 1919 ليدرس علوم الزراعة في جامعة بون University of Bonn لكنه صادف حظا مواتيا بعد عودته لمصر إذ تعرف عليه الأستاذ أرنست سمث Ernest Smith (الأستاذ بالأكاديمية الموسيقية بلندن) وهو أستاذ بريطاني كان معنيا بدراسة أثر الحضارة الفرعونية في الموسيقى القبطية، وهكذا تفرغ راغب مفتاح لجمع تراث هذه الموسيقى منذ عام من خلال تسجيل ما حفظته ذاكرة المعلم ميخائيل جرجس البتانوني رئيس المرتلين في الكاتدرائية المرقسية وقد عرف هذا الرجل بذاكرته الحديدية التي يتميز بها المكفوفون، وعرف مفتاح طريقه إلى الجامعات البريطانية بصحبة الأستاذ البريطاني يعرض عليها ما كان يسجله منها تفرغ لهذه المهمة.
في عام 1932 اختارته الحكومة المصرية بذكاء العهد الليبرالي ليكون ممثلًا للموسيقي القبطية في المؤتمر العالمي الأشهر الذي نظمته مصر لدراسة الموسيقي الشرقية، وفي عام 1940 كون فرقة مرتلين من طلبة المدرسة الإكليريكية وكورسين: أحدهما لطلبة الجامعة والثاني للطالبات. وفي عام 1945 اقام مركزا لتعليم الألحان للمعلمين والشمامسة في وسط القاهرة، كذلك وجد مفتاح مظلة لعمله في معهد الدراسات القبطية الذي عمل به حتى أصبح رئيسا لقسم الموسيقى والألحان فيه.
لغت ذروة نجاح راغب مفتاح بنشره القداس الباسيلي في عام 1998 وذلك عقب الاحتفال ببلوغه العام المئوي من عمره وقد نشر هذا القداس كاملًا باللغة القبطية والعربية مع ترجمة إنجليزية، بالإضافة إلي ستة أشرطة كاسيت للقداس نفسه، وستة وعشرين (26) بكرة لف للشرائط.
وعادة ما يستخدم هذا القداس الباسيلي في أعياد الميلاد والقيامة والغطاس ليخلق روحا من ائتلاف جموع الأقباط مع بعضهم البعض مع استحضار الألفة بالجمال الحقيقي لهذا التراث الموسيقي. وعلى يديه كان قد تم إنجاز التسجيلات الصوتية والكتابية باللغات القبطية والعربية والإنجليزية للنوتات الموسيقية ومن ثم تم ما يمكن تسميته بالحفاظ على مفردات التراث الموسيقي القبطي مع تقليل تأثير الأجهزة الحديثة عليها..
بدأ راغب مفتاح في عام 1927 مشروعه كما أشرنا من قبل من خلال تسجيل الألحان المؤداة بصوت المعلم ميخائيل جرجس البتانوني رئيس المرتلين في الكاتدرائية المرقسية، في الوقت الذي كان الأستاذ البريطاني يدون فيه هذه الألحان على شكل نوت موسيقية. كان راغب مفتاح يقول بأن هناك ثلاثة مصادر للألحان الكنسية وهي: المصرية القديمة، والعبرية واليونانية. وكان يقول إن جماعة المسيحيين الأولين أخذوا ألحانًا من مصر القديمة ووضعوا لها النصوص المسيحية أي على نحو ما نعرف من بعض تجارب الموسيقار محمد عبد الوهاب مع الشاعر الغنائي حسين السيد، ومن بين هذه الألحان لحن “غولغوثا” الذي كان قدماء المصريين يستعملونه أثناء عملية التحنيط وفي مناسبة الجنازات، ولحن “بين أثرو نسي” الذي يشتمل نصفه الأول علي نغمات حزينة تردد لوفاة الفرعون ونصفه الأخر على نغمات مبهجة تردد لزفاف الفرعون المنتقل إلى مراكب الشمس لتصحبه إلى (رع) في دنيا الخلود.
وكان راغب مفتاح يقول بأن موهبة التلحين الموسيقي الروحي ازدهرت في أزهي العصور الروحية للكنيسة بفضل كثير من الموهوبين، أما تأثيرات الموسيقي العبرية (موسيقي المعبد اليهودي) فقد دخلت عن طريق اليهود بالإسكندرية. وأما الألحان اليونانية فقد دخلت للتراث القبطي على يد البابا كيرلس الرابع الذي قرر أن يضم إلى ألحان الكنيسة المصرية بعض الألحان من الكنيسة اليونانية مثل ألحان القيامة ولحن العذراء، وغيرها. ونحن نلاحظ أن راغب مفتاح فيما روي عنه في هذه النقطة كان يحرص على أن يتلاشى الحديث عن تأثير الموسيقى العربية والترتيل القرآني في الموسيقى القبطية على الرغم من الوضوح البارز لهذا التأثير وعلى الرغم من أنه هو نفسه اشترك في مؤتمر الموسيقى الشرقية الذي انعقد في القاهرة في عهد الملك فؤاد، لكن جو الكنيسة لمصرية في نهاية القرن العشرين كان يؤثر هذا المنحى عن عمد في محاولة غير منضبطة (لكنها مفهومة) لرسم الهوية على غير حقيقتها.
وكان راغب مفتاح يلفت النظر إلى أن الصنوج المعاصرة المستخدمة في الصلاة ليست إلا تصورا خاطئا للناقوس الذي كان يستخدم في الأزمنة القديمة لضبط الإيقاع ليمكن جموع المصلين من الترتيل معًا، وكان يرى أن الناقوس آلة غير كافية لإضافة الانسجام للألحان القبطية، وأن تغيير العادات القديمة يمثل خطرا كبيرا على الألحان والموسيقي القبطية “خصوصا أنها موسيقي صوتية لا تعتمد على الآلات الموسيقية”.
وكان راغب مفتاح يذهب إلى القول بأن “الألحان والتراتيل الخاصة بالكنيسة القبطية هي أقدم موسيقي كنائسية في العالم”. وكان يعتقد أنه “لأهمية هذه اللغة وموسيقاها وعذوبتها وسهولتها يجب تعليمها للأطفال منذ نشأتهم وذلك للحفاظ علي جمال طقوس الكنيسة وتراثنا المصري. فقد وهب الله الأطفال ذاكرة ممتازة للغات وحفظ الكلمات”. وكان يقول عن اللغة القبطية “إنها لغة الصلاة وإن ميزة هذه اللغة أن أغلب كلماتها تحتوي علي حروف متحركة كثيرة تؤدي إلى سهولة اللفظ وجمال الغناء، لهذا السبب تفقد أنغام هذه اللغة عندما تنقل إلى لغة أخري سبعين في المائة على الأقل من أصولها الموسيقية”.
تزوج راغب مفتاح وهو في الخامسة والستين من عمره من السيدة ماري جبرائيل رزق (في عام 1963) وعاش حياته في منزلة القاطن بالجيزة قرب الأهرامات، كما كان يمتلك عوامة على ضفاف النيل وفيها بدأ به مشروعه. توفي راغب مفتاح في القاهرة يوم 16 يونيو 2001.
تم النشر نقلا عن مدونات الجزيرة
ولقراءة التدوينة من موقع الجزيرة إضغط هنا
للعودة إلى بداية المقال إضغط هنا