كنت أنوي أن أجعل عنوان هذه المدونة: دروس من نبوءات دوستويفسكي متحدثا عن الحقيقة القائلة بأننا في تأملنا للتاريخ ومساراته ومآلاته كثيرا ما نلجأ بذكاء الإنسانية إلى تجارب حياة الأدباء المؤثرين لنتعلم من قدراتهم على الاستكشاف والتنبؤ لنتعلم أيضا من الأسباب التي جعلت تنبؤاتهم لا تتحقق على نحو ما تصوروها. وأعترف أنني في هذه المرحلة من التباس الثورة بالثورة المضادة واضطراب الرؤية أجدني ألجأ إلى التأمل في مجمل حياة دوستويفسكي وآرائه التي عبر بها عن أزمة عصره.
وأبدأ بالإشارة إلى أنه في وقت من الأوقات حكم عليه بالإعدام رميا بالرصاص لكن الحكم خفف إلى النفي إلى سيبيريا بعد أن وقف هو وزملاؤه في ساحة الإعدام في انتظار تنفيذ الحكم، وهي قصة حقيقية أصابته بصدمة عصبية ظل أثرها واضحا في أدبه، وقد أشرت في كتابي عن العمل السري في ثورة 1919 إلى قصة مشابهة حدثت في مصر مع بعض أبطال ثورة 1919 ضد الإنجليز.
ومن الإنصاف أن أشير إلى أن الفضل في معرفتنا جميعا بدوستويفسكي يعود إلى ما كتبه عنه الأستاذ حسن محمود وهو واحد من جيل الرواد العظماء الذين بٌعد العهد بهم وبمعرفة فضلهم، وقد نشر هذا الأستاذ العظيم كتابا عظيما عن دوستويفسكي وصدر الكتاب 1943 في بدايات سلسلة اقرأ التي أصدرتها دار المعارف.
كان فيودور دوستويفسكي (1821 ـ 1881) كاتبا روسيا بل عالميا عظيما، عاش حياة طويلة صعبة، فقلم يكن بلوغ الستين في ذلك العصر لم يكن شائعا، لكن الأهم من حياته هو أنه ترك آثارا عميقة في شعبه وأدب شعبه، كما امتد أثر أدبه خارج حدود وطنه.
كان دوستويفسكي ولا يزال أيقونة للتعصب القومي القائم على اللغة، فقد كان شديد التعصب لما هو روسي الوطن واللغة والشعب، وكان يرى اللغة الروسية في مكانة أعلى من اللغات الأخرى، وقد دفعه حبه إلى أن يصفها بأنها لا تترجم في حين يمكن ترجمة سائر اللغات الأخرى إليها. وكان يرى الشعب الروسي شعباً عظيماً يحب الألم ويسعى إليه في كل مكان وفى كل زمان، وكان يعتقد أن هذا الشعب الروسي بسبب نبالته يجد اللذة في النكبات والمصائب.
وفي مستوى السياسة كان دوستويفسكي يعتقد أن روسيا كأمة تختلف اختلافا بينا عن سائر الأمم الأوروبية، وأنها تتميز بموقفها المقاوم (مقاومة تصل إلى درجة العداء) لثلاثة اتجاهات فكرية مسيطرة على أوروبا في زمنه وهي الاشتراكية الفرنسية، والبروتستانتية الجرمانية، والكاثوليكية الإيطالية، ومن طرائف التاريخ وسخرياته أن الأرثوذكسية كانت منتشرة في روسيا من قبل دوستويفسكي، ومن ثم فقد انتفت الكاثوليكية والبروتستانتية. أما الاشتراكية الفرنسية فقد أصبحت متضائلة إلى أقصى حد بالنسبة إلى الشيوعية التي سيطرت على روسيا سيطرة تامة في العصر التالي لعصر دوستويفسكي(!!) ومن الجدير بالذكر أن أدب دوستويفسكي نفسه قد اعتبر من الأسباب التي هيأت الأجواء للثورة الشيوعية التي حدثت بعد حين.
تظهر في أعمال دوستويفسكي نزعة دينية واضحة ترتبط بالخير والشر، والثواب والعقاب، وحتمية انتصار الحق والخير، ولا تزال أعماله تحظى بالقبول لتناولها الفني الجيد للقيم الإنسانية بطريقة محببة إلى النفس، وانحيازها إلى الفقراء والمظلومين، وقدرتها على التحليل النفسي العميق، والتصوير الإنساني الطابع دون غرابة أو اعتماد على خيال بعيد عن الواقع.
وقد تأثر تكوين دوستويفسكي الأدبي بروايات تشارلز ديكنز، لكنه لم يقف عند حدودها، وإنما زاد عليها ما تميز به من قدرة على التحليل النفسي، وإدارة وتصوير الصراع الملحمي يبن الخير والشر، ورسم وتصوير الحالات النفسية المختلفة، وتجسيد طبيعة الأفكار المسيطرة على أصحابها والدافعة لهم إلى سلوكيات تبدو غير متوازنة، و على سبيل المثال فإنه أجاد تصوير حالات عدم الاتزان النفسي والاضطرابات السلوكية إلى حد جعل بعض قرائه ممن لم يخبروا هذه الحالات يتصورونه هو نفسه غير متزن، ويمثل هذا ـ في رأيي ـ قمة القدرة التعبيرية.
أما عن حياته فقد ولد في موسكو فكان ابن المدينة الكبيرة، ودرس في الأكاديمية الهندسية في بطرسبرج، وانضم إلى جماعات سياسية صغيرة محظورة، وعانى من الاعتقال. وقد مارس الكتابة الصحفية، وكتب في الصحف السياسية بانتظام في السنوات الأخيرة من حياته.
عاش هذا الأديب ما نعرفه من محنة الكاتب مع ماديات الحياة ، وكان قد أصدر بالاشتراك مع أخيه ميخائيل مجلة «العصر»، لكنها لم تلق النجاح فاضطر إلى الاستدانة من الناشر، ولما عجز عن سداد ديونه تعاقد معه على أن يوفى دينه قصصا وروايات، وتحول إلى ما يشبه آلة لإنتاج القصص، وفى هذه الفترة ساعدته «آنا سنيننكينا» وكانت تتعلم الاختزال، وإليها يعود الفضل في إتمامه لقصة «المقامر» في الموعد المعين، وقد تطورت علاقتهما إلى الزواج بعد إتمام القصة، لكن الديون تزايدت عليه وظن أن المقامرة قد تكفل له حلا لمشكلته، فهجر وطنه هروبا من الدائنين وبدأ المقامرة لكنه لم يلق الحظ الذى كان ينتظره، وقد اعتمد على زوجته التي أخلصت له وساعدته في عمله كما ساعدته بمالها، وكانت تعينه على اختيار موضوعات قصصه وكثير من تفصيلاتها، وبفضل العمل المتصل تحسنت أحواله حتى احتل في أخريات أيامه مكانة مرموقة بفضل قلمه وكتاباته.
أول أعماله المشهور «شعب فقير» وقد نشرت (1845)، وبعدها (1847) انضم إلى جماعة سياسية محظورة مما أدى إلى القبض عليه، وحكم عليه بالإعدام رميا بالرصاص كما ذكرنا في بداية المدونة لكن الحكم خفف إلى النفي إلى سيبيريا بعد أن وقف هو وزملاؤه في ساحة الإعدام في انتظار تنفيذ الحكم، وقد ظل أثر قصة الحكم عليه بالإعدام وما أصابه من صدمة عصبية واضحا في أدبه، وفيما بعد نال العفو وقضى سنوات في الجيش.
ثم عاد إلى بطرسبرج واستأنف الكتابة وأصدر أنجح رواياته: «الجريمة والعقاب» (1866)، و«الأبله» (1868 ـ 1869)، و«الممسوس» (1871 ـ 1872)، و«الأخوة كرامازوف» (1879 ـ 1880).
تم النشر نقلا عن مدونات الجزيرة
ولقراءة التدوينة من موقع الجزيرة إضغط هنا
للعودة إلى بداية المقال إضغط هنا