الرئيسية / المكتبة الصحفية / مقالات الجزيرة / الجزيرة نت / حين يتداعى حصار قطر بنفسه إلى نهايته!

حين يتداعى حصار قطر بنفسه إلى نهايته!

 

 

يلاحظ المراقبون للشأن الخليجي أن آليات العمل السياسي والأداء الإعلامي في حصار قطر أصبحت تتطور تلقائيا (شأنها شأن كل فعل عدائي)، كما تتطور بالتخطيط الإستراتيجي (شأنها شأن كل فعل سياسي) في اتجاه واحد فقط هو إطالة أمد النزاع دون استشراف واضح لنتيجة مضمونة.

ومن المعروف أن هذا النموذج من نماذج إدارة الصراع يندرج تحت ما قد يصفه ببلاغة ذلك التعبير المختصر المعروف في قولهم: لعل وعسى! وهو تعبير طريف يعبر عن الأمل في تحقق أمنية بعيدة الترجي، بناءً على احتمال ضعيف الحدوث.

وذلك مع أن المؤشرات تعكس ضعف تأرجحية الاحتمالية التي يُمني بها أصحاب الأمل المحاصِرون أنفسَهم، لأنهم يرون الاعتراف بالواقعية غير مفيد لا لصورتهم السيادية الكلية، ولا لمحوريتهم في علاقاتهم الجديدة والمستقبلية.

وقد أصبح واضحا (للمراقبين والقراء على حد سواء) أن دول الحصار لا تزال عازمة على الاستمرار في سياسة الحصار من أجل الحصار، دون أن تحقق مكاسب إيجابية من ورائه، ودون أن يمثل الحصار نفسه عاملا من عوامل الضغط القادرة على تغيير السياسات أو التوجهات.

وهو أمر كان يمكن أن يتحقق لولا العزيمة الجبارة التي تحلى بها رد الفعل القطري الوئيد، الذي عبّر عن نفسه بنبرة هادئة وتصرفات واثقة، أعلنت بوضوح عن أن قطر بَنَتْ إستراتيجيتها -منذ اليوم الأول للحصار- على توقع ذكي بأنه حصار طويل الأمد وإن لم يكن أبديا.

ومما يلفت النظر بقوة أن الإلحاح الإعلامي لدول الحصار جعل المواطن القطري -قبْل حكومته- يبني حساباته على أن الحصار لم ينجح ولن ينجح إلا في بنائه لجدار نفسي سميك بين الأشقاء.

ومع أن القطريين لم يتصوروا -فيما مضى- إمكانية وجود هذا الجدار؛ فإنهم لمّا رأوه يتشكل لم يخدعوا أنفسهم ولم يكذبوا عيونهم، وإنما انتبهوا إلى الدلالات قبل أن يفكروا في المآلات، وخاصة حين مس الأمر عقيدتهم وشعائر دينهم.

وكان هذا النمط من الوعي السياسي بجوهر التوجه -قبل التفكير في عواقبه- خيرا وبركة على كل قطري، تقتضي ظروف حياته ومقومات نشاطه درجة ما من درجات التعامل أو التلامس أو التعاطي مع دول الحصار.

وهكذا فرض هذا الجدار النفسي المعادي المختلق والسميك على القطري المعتز بنفسه ووطنه نوعاً من الإيمان السياسي بأن الحصار يعكس حالة نفسية قبل أن يعبّر عن رغبة نفسية، وأنه يكشف عقيدة قبل أن يصوّر نهجا، وأنه صفة للطغيان قبل أن يكون وصفة له، وحالة من الفشل قبل أن يكون حلا له.

وبناءً على هذا كله؛ فلا بد للحصار أن يُعالج من جانب كل قطري على أنه أبدي مع عدم تمني تلك الأبدية. فقد كان هذا الوجدان القوي -الذي تفاعل به الشعب القطري مع الحصار- حاسما في إغلاق كل منافذ الفتنة السياسية، التي كانت كفيلة -في حالات مماثلة- بأن تخلق صعوبات دينامية بالغة، فإذا بها في حالة قطر تمثل حالة من الوجد العاقل الذي عبر باقتدار عن تمسك الشعب القطري بأميره وبحكومته وبسياسته.

ومن ثم فإن الشعب القطري أجهض -بذكاء وهدوء وثقة- محاولتين ساذجتين متواليتين لفرض قيادات بديلة على المشهد القطري، ظنا من المحاصرين أن أسلوب الاغتصاب المدعوم بعصابات المرتزقة السافرة يمكن أن يحقق شيئا ذا بال على حين غرة، وهو ما لم يحدث لحسن حظ.

وشيئا فشيئا؛ بدأت الدول المحاصرة ترمي بكل ثقلها المادي والتآمري لتأليب كل القوى المحاربة للإسلام وللإسلام السياسي واستعدائها على قطر، باعتبار أن قطر قبل غيرها كانت صادقة العهد في خدماتها الإنسانية للإسلام والمسلمين.

ومن ثم فإن تقويض جهودها الإنسانية في بلاد المسلمين كفيل بذبول صورتها المتألقة من ناحية، وكفيل أيضا بتجذير أو تأصيل عداء بينها وبين القوى الغربية التي قد تبدو متحفظة على غاية كل نشاط إسلامي إنساني، بما في ذلك الحق في الحياة الكريمة والتحرر من الخوف.

ومن المؤسف أن دول الحصار قطعت أشواطا واسعة في سبيل تصوير نفسها معادية للفكرة الإسلامية بل وللهوية الإسلامية، ثم في سبيل العمل من أجل توكيد صدق هذا التصوير، وذلك ظنا منها أن هذا النهج الواضح يضمن لها انتصارا مؤكدا على قطر.

وكانت النتيجة أن هذه السياسات بنت توقعاتها على البحث عن نجاح من أي نوع، قد يتمثل حتى في الحصول على أي تصريح معاد لقطر يصدر عن سيد البيت الأبيض أو عن غيره من طبقة سيد الكرملين أو سيد الإليزيه أو سيدة داوننغ ستريت. ومن الجدير بالنظر والإعجاب أن قطر استطاعت -بنفس طويل وجهد دؤوب- أن تحوّل كل هذه الغايات الممنهجة إلى ما يشبه أضغاث الأحلام.

وقد وصلت تطلعات المراقبين للأزمة إلى ذروتها مع الزيارتين المتعاقبتين لأمير قطر وولي العهد السعودي إلى الولايات المتحدة الأميركية، وقد تابعت الجماهير هاتين الزيارتين كما تابعها الخبراء والمراقبون، وكانت المفاجأة الحاسمة أن الرئيس الأميركي حرص على الإشارة الواضحة الصريحة إلى أن الشعب القطري يحب أميره الرجل العظيم الأمير تميم.

وجاء الإصرار من الرياسة الأميركية على تأكيد معرفتها بهذه الحقيقة ليرسل رسائل مباشرة لتحالف السعودية والإمارات، وليؤكد -في المقام الأول- أن أميركا تملك القدر الكافي من المعلومات الوافية عن موقف الحكام في الشارع السياسي، وأنها تعترف بهذه المعلومات وتقدر دلالاتها، وتحترم معطياتها مهما كانت متطلبات حساباتها الإستراتيجية أو الوقتية أو السابقة.

وكانت هناك رسالة أخرى لا تقل أهمية مع أنها رسالة ضمنية، لا يدركها بوضوح إلا الذين يفهمون طريقة الأميركيين في الإدلاء ببعض ما يريدون الإدلاء به من آراء؛ كما يفهمها المتمرسون بالتعامل مع نصوص البيان العربي القديم، الذي تعوّد أن يلجأ إلى مثل هذا الأسلوب ليبني عليه ما يفهمه المتلقون تلقائيا.

وذلك طِبقا لقاعدة مفهوم المخالفة التي تقول ببساطة شديدة إن النص على حب الشعب القطري للأمير يعني بمفهوم المخالفة أن أميركا قد أدركت بوضوح حقيقة مشاعر الشعوب الأخرى تجاه حكامها.

وعلى سبيل المثال؛ فإن شعب الدولة العربية البعيدة عن جوار قطر الذي خرج لتوه من تجربة لتسجيل الرأي، قد أسمع الأميركان رأيه الصريح عبر سخرياته؛ ومن ثم فإن الأميركان أصبحوا لا يرحبون باستمرار استغلال تورطهم في تأييد تحالف رباعي لم يكن له ما يسوغه، ولم يعد له ما يبرر استمراره.

تراوحت رسالة ثالثة بين الصراحة والتضمين، ونقل فيها الرئيس الأميركي رغبته هو شخصيا في الإشارة إلى أن انحيازاته السابقة لدول الحصار ليست قابلة للتكرار، حتى مع استمرار الضغط المعنوي الذي تمارسه السعودية والإمارات، وما تلقيانه من دعم إعلامي تقني مكثف من إسرائيل والقوى المؤيدة لها في حقل الإعلام.

وبالإضافة إلى المعاني التي تضمنتها كلمات الرئيس الأميركي المباشرة في المؤتمر الصحفي المشترك مع أمير قطر؛ فإن الزيارة أضافت أكثر من عنصر تعزيز إلى قوة الموقف القطري، ومن حسن الحظ أن هذه العناصر -التي سنوجز التعبير عنها- لا تخفى على العيون المدربة على تقييم المواقف والحجم النسبي للنفوذ:

العنصر الأول تمثل في اتفاق الجانبين على أن يبدأ الأمير زياراته وجولاته بحرية تامة قبل أن يلتقي بالرئيس الأميركي، وهو معنى من معاني التكريم الصريح الواضح، وخاصة إذا ما قورن بالتصرف المناظر في حالة أخرى، كان الاستقبال المبكر للضيف دالًّا بوضوح على مفاهيم مختلفة.

العنصر الثاني تمثل في حدود الحركة التي أتيحت لأمير قطر وسمحت بزيارات وجولات في منشآت عسكرية رفيعة القيمة وبالغة الخطورة، وهو ما أعطى الانطباع بحرص المضيف على إضفاء طابع وملامح الضيف فوق العادة على الزيارة.

العنصر الثالث هو حرص الجانب الأميركي على إظهار وتكريس لقاء الأمير مع وزير الدفاع الأميركي جيمس ماتيس، مع التطرق الصريح والعملي لآفاق التعاون المستقبلي.

العنصر الرابع هو التركيز الذكي من أمير قطر على رمي القفاز في وجه المحاصِرين، بحديثه القاطع ذي النبرة الباتّة والواثقة عن محاربة الإرهاب.

العنصر الخامس حرص الجانبين على إبراز حجم ونتائج المحادثات الاقتصادية التي واكبت الزيارة، واشترك فيها أقطاب مؤثرون من رجال المال والأعمال القطريين.

وعلى هذا النحو خرج المراقبون للأحداث والسياسات بيقين واضح بشأن مستقبل الحصار الذي لم يعد له من سبيل إلا التداعي.

 

تم النشر نقلا عن موقع الجزيرة نت

ولقراءة المقال من موقع الجزيرة إضغط هنا

للعودة إلى بداية المقال إضغط هنا

شارك هذا المحتوى مع أصدقائك عبر :
x

‎قد يُعجبك أيضاً

حماس على طريق النصر

لما ظهرت حركة حماس إلى الوجود دارت مناقشات متعددة حول جدواها ومستقبلها، ...

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com