إذا جاز القول بأن ميدانا ما من ميادين البناء المجتمعي كان هو أبرز ما مكّن لقطر في تصديها للحصار، وتفوقها على محاصريها فيما قبل الحصار وبعده؛ فإن هذا الميدان هو ميدان الهندسة السياسية للتحولات الاجتماعية.
وإذا جاز أن هناك علما إنسانيا وتطبيقيا ينبغي لبعض الدول العربية المعاصرة أن تنتفع به وتشجع عليه، وتستثمر في تطويره وتحديثه والارتقاء به، فهو علم الهندسة السياسية للتحولات الاجتماعية.
لا يستدعي الأمر منا كثيرا من التمهيد لفهم حدود تطوير وتوظيف هذا العلم، ذلك بأن الأمر الواقع هو الذي يتولى الآن الدفع بإصرار -يبلغ حد القهر- إلى اللجوء إليه، حتى ولو لم نكن نعترف به بهذا الاسم والمفهوم فيما قبل الاضطرار الحاد إلى اللجوء إلى مكوناته وقواعده، في ظل موجات التطور والتغيير الاضطرارية والمباغتة التي تحيط بمنطقتينا العربية والإسلامية.
وعلى سبيل المثال؛ فإن عملية التحول من مجتمع ظل يرفع الرايات التي تعلن بوضوح أنه مجتمع شديد المحافظة (لا المحافظة فحسب) إلى مجتمع مفتوح، لا يمكن أن تحرز ما تتمناه من النجاح الحقيقي بقرارات فوقية، وإنما تتطلب مجموعة من التوازنات التفصيلية الدقيقة بين كل خطوة ومردوداتها.
ومع أن ما يتوقعه القراء مني هو تقديم وصفة ناجعة باعتباري مشتغلا بالأستاذية الجامعية، وممن تميل آراؤهم أوتوماتيكياً إلى التعويل على الجانب التربوي والمناهج ومدخلات العملية التعليمية؛ فإني أستطيع أن أجاهر بشجاعة بأن هذا هو أضعف الحلول، بل إنه الحل الذي ينبغي ألا نلجأ اليه.
وفي مقابل هذا؛ فإني أميل إلى القبول بجرعة ما من جرعات الإقناع الجبري بالتحول المنشود، من خلال وسائل براغماتية مباشرة، إذ إن الأمر في التحولات الفجائية لا يمكن الإقناع به إلا في هذا الإطار الذي يستبقي الاحترام للأسس والقواعد الأخلاقية الحاكمة للمجتمع، مع قدر أكبر من السماح بحرية الاختيار من ناحية وحرية الالتزام من ناحية أخرى.
وفي كلمة واحدة محددة شافية وكافية؛ فإن أنجح وسائل الإقناع الجبري هو القدوة أي البدء بالنفس.
وعلى سبيل المثال؛ فإن المصادفة البحتة جمعت بين الخطوة الجبارة التي تأخرت أكثر من مئة عام، والخطوة المفاجئة السعودية الداعية إلى التخلى عن بعض القيود الاجتماعية التي صُورت على أنها بمثابة التعبير عن الالتزام الخلقي، الذي يصوَّرعلى أنه جزء من الالتزام المطلق بأصول الشريعة الإسلامية.
ما هي هذه الخطوة الجبارة التي تأخرت أكثر من مئة عام وتمثل مفتاحا للولوج الهندسي المحسوب إلى التحول الاجتماعي؟ إنها خطوة تشغيل السكة الحديدية بدءا بخط الحرمين. كيف يمكن لمثل هذه الخطوة أن تساعد في هندسة التحول الاجتماعي؟
المسار الأول هو هندسة الانتقال من الخصوصية الأسرية العائلية المطلقة إلى خصوصية أسرية عائلية مقيدة نوعا ما، من خلال تأجير كابينة القطار ضمن كبائن أخرى في رحلة عامة وليست خاصة تلتزم بآداب وتقاليد احتماعية جمعية وليست فردية فحسب.
وتفتح الباب أمام ضبط الاختلاط المحسوب كبديل للمجتمع المغلق، وتعود المشاركين في التجربة على الخضوع لقواعد وإجراءات جماعية لا تسمح للفرد بقهرها أو كسرها، من قبيل موعد تحرك القطار وما هو مسموح باصطحابه فيه… إلخ. ونحن هنا -كما أشرت من قبل- لا نقدم وصفات، لكننا نلفت النظر إلى مسارات قابلة للتحمل والتحميل والتوجيه ثم التحويل.
المسار الثاني هو التحول إلى ضبط المواعيد بالوقت المحدد سلفا بدلا من ضبطها بالتوافق المتفاوض عليه، وهي خاصة تخلق من مستخدمي السكك الحديدية بشرا يتمتعون أو يعانون من صفات الانضباط الآلي، الذي قد يميز -من ناحية مادية- الآلة عن الإنسان لكنه أيضا يعطي الإنسان مزية عدم الخضوع التام للرتابة أو الوتيرة.
المسار الثالث يتعلق بالتحرر من المسؤولية عن الآلة نفسها التي يقتصر دورها في حالة السكة الحديدية على وظيفتها، وهو ما يتمثل في أن علاقة المستخدم بالقاطرة تنتهي بوصوله ولا يصبح مسؤولا عنها بعد وصوله؛ فأنت لست مسؤولا عن مقومات حياتها كالخيل والجمال، ولا أنت مسؤول عن تخزينها وتأمينها كما هو الحال في السيارات والمركبات عموما.
ومع هذا التبسيط المخل والمتناهي لفكرة هندسة التحولات الاجتماعية؛ فإننا ننتقل بهذه السمات الظاهرة إلى سياسات الهندسة وهندسة السياسات، فنجد أنفسنا في مواجهة ما يعنيه الانقلاب على الدولة الأبوية أو البطريركية، لتتحول من أبوة فارضة أو مفروضة أو مفترضة إلى ما لا يتجاوز أخوة هادية هادئة، ترسم وتخطط وتساعد دون أن تستولي على مفاتيح السلوك القيمي أو تحتكرها.
وفي هذا الصدد يأتي الحديث عن التحول في الأزياء؛ فإذا ما استطاعت الدولة الراغبة في التحول إحداث هذا التحول بالأسلوب الهندسي المرسوم في الأزياء المهنية المتعددة، فإنها تكون قد فتحت الباب واسعا لتحول اجتماعي يوازن بين الحرية والعشوائية، وبين الالتزام والهارمونية.
وينتقل النموذج -الذي لا يتطلب تعميمه أكثر من أسبوع واحد- إلى مناحي الحياة جميعا، ليخلق نمطا مشابها إلى حد بعيد لنمط الطلب التقليدي على الملابس العربية البيضاء، التي تنتجها دول كثيرة بما فيها الصين والهند وغيرها على نطاق جماعي واسع ومعروف، وتوردها حتى لأسواق الولايات المتحدة الأميركية نفسها.
لا تقف هندسة التحول الاجتماعي عند مثل هذا الخط الذي يبدو ساذجا، وإنما تبدأ من هذه السذاجة في معناها الأصلي؛ وهو الخلو من الفرضيات الحاكمة للشكل تبعا لمحددات سابقة غير ذات علاقة بالذات.
ربما نضرب المثل على الفرضيات البعيدة عن الذات بما كان يحدث من الالتزام بالطربوش ثم الثورة عليه وخلعه، ذلك أن غطاء رأس الرجال -في بعض بيئاتنا الإسلامية- يخرج من نطاق الحرية المطلقة إلى نطاق الالتزام باعتقاد راسخ أو بسنة محببة، لكن شكل الغطاء ومساحته وعقدته ومقدمته وخاتمته وخامته تبقى ميدانا لاختيارات لا نهائية.
وهنا ينبئنا التاريخ عن مدى ما كان يمكن أن يمثله الانتقال من العمة مثلا إلى الطربوش في زي طائفة ما، ومن الطريف أن مثل هذه المناقشات كانت كافية لخلق حالة من التعبير عن الصراع الاجتماعي مثل ما حدث في قصة طلاب دار العلوم بين العمامة والطربوش، وهي قصة أوردتُ تفصيلاتها الفكرية والاجتماعية بالتفصيل في أحد كتبي.
وربما نتعجب من أن الأمور وصلت إلى هذا الحد من اهتمامات المثقفين في وقت ما، لكننا لا نستطيع أن نزعم أن الانتقال إلى الرأس الحاسر كان في حد ذاته تعبيرا عن التقدم، وإن استطاعت السلطة تصوير التخلي عن الطربوش -فيما بعد- بأنه شيء قريب من التحرر الاجتماعي.
أنتقل سريعا إلى القول بأن هناك خطورة قصوى في التحولات الاجتماعية، تتمثل في أن الانفتاح الاجتماعي يمر بسهولة في افتتاحياته لكنه سرعان ما يقع في التناقضات الداخلية التي تجعل دعاة الانفتاح نفسه يندمون على جهدهم فيه.
ويحفل التاريخ الأميركي الحديث بأبرز الأمثلة على هذه الظاهرة في التحولات التي استهدفت التحرر والتشدد على حد سواء، ولعل موقف الأميركيين الجازم من تحريم الكحوليات في عشرينيات القرن العشرين يمثل ملمحا ملهما في هذا المجال.
ومن المثير للإعجاب أن الحضارة الغربية المعاصرة سرعان ما اهتدت إلى أهم الحقائق في التطوير الاجتماعي، وهي الانتقال بمسؤوليته الكلية من الحكومة النظامية إلى المجتمع المدني الحي والحر، ذلك بأن التحول لا يمكن أن يتم بأجهزة جامدة في أدائها، ولا بقرارات فوقية في زمن لم يعد يؤمن بأية “فوقية” من أي نوع.
وهكذا أصبح على مجتمع كالمجتمع السعودي أن ينمي سلطة المجتمع الحاكمة، في اللحظة التي تسعى فيها قيادته الجديدة إلى إحكام قبضتها على مقاليد الأمور ومجرياتها.
وربما أن الاجتماعيين الرسميين لم يدركوا بعدُ حجمَ التناقض بين ما تعد به الحكومة من حرية اجتماعية، وما تنشده في ضميرها من إحكام القبضة السياسية.
وربما أن هذا التناقض لم يعبّر عن نفسه بوضوح بعدُ، فإذا ظل الأمر على نحو ما هو عليه الآن فإنه سيقود إلى تبني فكرة الدول الأوتوقراطية التي تظن أوتوقراطيتها السياسية تمثل ثمنا للحرية الاجتماعية البالغة حد التحلل، والتي تتميز بالجمع بين تزايد إحكام القبضة السياسية والبطش بمن يعترضون على هذا الإحكام، أو القبض المتزايد مع السماح بدرجات متفاوتة من الانفتاح الاجتماعي.
ومن الجدير بالانتباه أن هذا الطراز من الدول أصبح عاجزا عن الاستمرار على هذا الحال. وهنا نجد التاريخ المعاصر يضع أمام أعيننا صورة الاتحاد السوفياتي حين وجد أن الانفراط يمثل الحل الأمثل له.
وذلك بعد أن خطا خطوات غير مهندسة في سبيل التحولات الاجتماعية، معتمدا على نفس الآليات الحاكمة القديمة التي كانت تظن أن بوسعها تفعيل شرعيتها، رغم ما سمحت به من تجاوز لقيم المجتمع السوفياتي التي كانت قد استقرت على مدى فترة لا تقل عن نصف قرن (ولاتزيد عن ثلاثة أرباع القرن )، رغم غرابتها وربما غرائبيتها كذلك.
لا يمكن لمشتغل بالفكر أن يتباهى على أبناء قومه بأنه يعرف ما لا يعرفون مما يلزمهم أن يعرفوه من تجارب الأمم المحيطة بهم، لكنه لا يليق أيضا بالدولة -أية دولة- ألا توظف إمكانات المفكرين الأصلاء وعلماء الاجتماع والسياسة فيها، لبلورة نتائج ما حققته التجارب المعاصرة من نجاحات أو إخفاقات، بما يلخص الرؤية على هئية تصف فعاليات كل سياسة أو خطة.
وتصف معها آثارها الجانبية وأفضل الوسائل للتغلب على تلك الآثار الجانبية، مع إعادة النظر الناقد والمتأمل في هذه النتائج والخبرات.
وعلى سبيل المثال؛ فإن حركيات الاقتصاد السياسي الصيني المعاصر مرت أكثر من مرة بتحولات حادة كانت كفيلة بالقضاء على التجربة القائمة، لكن أحفاد حكماء الصين فتحوا لأنفسهم مسارات المناقشة الهادئة للفشل بأكثر مما شغلوا أنفسهم بالنجاح أو بالترويج له، حتى بدا الأمر وكأنهم نجحوا بالمصادفة.
تم النشر نقلا عن موقع الجزيرة نت
ولقراءة المقال من موقع الجزيرة إضغط هنا
للعودة إلى بداية المقال إضغط هنا