بعد ساعة من إتمام كل إجراءات مذبحة القضاء في نهاية أغسطس 1969 فإن الرئيس جمال عبد الناصر بحكمته التي تعالى بها على مؤيديه، أقال الوزير المسؤول عن المذبحة إعدادا وتجهيزا وتقنينا وصياغة وإخراجا وهو المستشار محمد أبو نصير. الأمر مفهوم في إطار ميكيافيلي ومفهوم أيضا في إطار بروتوكولات حكام العسكر، لكن وزير الزراعة المهندس سيد مرعي الذي كان من أقارب عائلة أبو نصير وكان يكن له العداوة، تبرع في مذكراته وتطوع فأسند إلى نفسه دور الحفار الذي حفر لأبو نصير فأزاحه من منصبه في ظل تفسيره لسبب مذبحة القضاة ومسيرها ونهاية الوزير.
لنقرأ هذه الفقرات المختارة من مذكرات الوزير سيد مرعي الفخور بالحفر لزميله حيث يرويها وهو يتصور أنه صنع الصواب وصاغ الحكمة:
“…بدأت تلك الأزمة عندما نوقشت في مجلس الوزراء تقارير بأن بعض القضاة يوجهون انتقادات أساسية لنظام الحكم، ولجمال عبد الناصر شخصيا، وأن هؤلاء القضاة يباشرون نشاطهم داخل «نادي القضاة» بحيث تحول النادي إلي ما يشبه خلية ضد نظام الحكم”.
“ويومها لم يبت الرئيس جمال عبد الناصر برأي في هذه التقارير.. وإنما طلب من السيد محمد أبو نصير وزير العدل أن يبحث في ذلك، ويوافي مجلس الوزراء في اجتماعه التالي بتقرير عن هذا الموضوع..”.
“وجاء الاجتماع التالي، فبادر السيد محمد أبو نصير بتلاوة تقرير أعده عن الموضوع.. وشرح فيه أن هناك نشاطا معاديا لنظام الحكم يجري في نادي القضاة وأنه حاول التفاهم مع متزعمي هذا النشاط فلم ينجح، لأنهم يعترضون على كل شيء وينتقدون كل شيء.. وأنه بالبحث تبين أن هؤلاء المتزعمين -وعددّ أسماءهم- ينتمون إلى أسر غنية وإقطاعية تعادي النظام الاشتراكي من أساسه لأنهم ينتمون إلى أسر أضيرت من قوانين الإصلاح الزراعي والتأميم.. بالإضافة إلى أن بعضهم تربطه قرابة ببعض المعزولين سياسيا من السياسيين القدامى قبل الثورة، ثم انتهى بأن مسؤوليته كوزير للعدل تحتم عليه فصلهم من القضاء بالإضافة إلى حل مجلس إدارة نادي القضاء..”.
“وهنا طلب السيد شعراوي جمعة الكلمة وقال: إنه كوزير للداخلية يؤيد المعلومات الواردة ببيان السيد وزير العدل.. وأن السماح باستمرار هذا الاتجاه يهدد بعواقب جسيمة.. لأن هؤلاء القضاة يحاولون إشاعة روح التذمر في السلك القضائي كله ضد نظام الحكم، وضد جمال عبد الناصر، وضد القوانين الاشتراكية“.
“وهنا قال جمال عبد الناصر: إنني أرى أن القضاء لا يمكن أن يسير بهذه الطريقة فنحن ننظر إلى القضاء كجهة محايدة تنفذ القانون بالعدل.. أما وقد أصبح هناك قضاة يعادون القوانين ذاتها التي حملت إجراءات اشتراكية، فإنهم في هذه الحالة يصبحون عرضة لتغلب مشاعرهم الشخصية والتزامات القرابة وموقفهم الطبقي.. وبالتالي يفقدون حيادهم المطلوب.. وبالتالي فلا بد من إجراءات سريعة لنقل هؤلاء القضاة إلى وظائف أخرى خارج السلك القضائي”.
“لم يكن الموضوع في الواقع مطروحا للنقاش، وإنما كان واضحا أن الرئيس جمال عبد الناصر يصدق تماما البيانات التي أدلى بها السيدان محمد أبو نصير، وشعرواي جمعة.. وأنه قرر فعلا اتخاذ إجراء عنيف ضد هؤلاء القضاة“.
“ولأنني أعرف السيد محمد أبو نصير جيدا، بل وتربطني به صلة من القرابة فقد بدأت أشكك في صحة المعلومات التي أدلى بها.. وبالتالي في مدى سلامة هذا الإجراء الذي سيتم اتخاذه.. وجلست طوال جلسة مجلس الوزراء مهموما ومكتئبا ورغم أنني حاولت مداواة ذلك إلا أنه يبدو أن الرئيس جمال عبد الناصر نفسه قد لاحظ ذلك أثناء الجلسة.. وعدت إلى بيتي وأنا في هذه الحالة من الاكتئاب“.
“وفي اليوم التالي اتصل بي محمد حسنين هيكل تليفونيا وطلب مني ان نتناول العشاء معا، وليكن ذلك في روف فندق «سمير اميس».
“وعندما ذهبت في الموعد فاتحني هيكل في الموضوع مباشرة قائلا: “يبدو أن الرئيس قد لاحظ عليك أمس في اجتماع مجلس الوزراء أنك غير مستريح للمناقشة التي جرت، وطلب مني أن أتعرف على وجهة نظرك، وسوف أبلغها له كما تعبر عنها بالضبط“.
قلت له: أنا فعلا لم أعلق في هذه الجلسة على هذا الموضوع لا بالموافقة ولا بالاعتراض.
قال هيكل: لا.. أكثر من ذلك.. واضح أنك كنت غير راض..
قلت له: أنا فعلا غير راض.. ووجهة نظري في هذا الموضوع والتي أرجو أن تبلغها للرئيس حرفيا، هي أنه عندما تصل الأمور إلى هذه الدرجة فإن الذي يجب أن يحاسب هو وزير العدل وليس القضاة أنفسهم.
سألني هيكل: لماذا؟
قلت له: لأننا نجتاز فترة من الفترات التي يجب فيها على وزير العدل أن يلعب دورا أساسيا في إقناع الناس وتجميع الصفوف، وليس تمزيق الصفوف كما يفعل محمد أبو نصير.. ففي وزارتي مثلا.. إذا حدث أن مديري الزراعة ثاروا ضدي فإن الحل في هذه الحالة يكون بإبعادي وليس بإبعادهم هم، لأنه ليس من المعقول أن يكونوا جميعا على خطأ وأنا وحدي على صواب. وفيما يتعلق بالقضاء فأنا استمعت لوجهة نظر محمد أبو نصير أمس.. ولكني أعرف أيضا وجهة النظر الأخرى وأرى أنها أكثر إقناعا.. ومبدأ فصل القضاة الذي طرحه محمد أبو نصير أمس هو مبدأ خطير أرجو ألا يتم الانسياق إليه بتأثير البيانات الخاطئة التي قدمها وزير العدل وأيده فيها وزير الداخلية.
“وقد قام السيد محمد حسنين هيكل بإبلاغ وجهة نظري كاملة فعلا إلى الرئيس جمال عبد الناصر.. ولكن الظروف شاءت أن تتم «المذبحة» فعلا بوقائعها التي أصبحت معروفة بعد ذلك”.
تم النشر نقلا عن مدونات الجزيرة
ولقراءة التدوينة من موقع الجزيرة إضغط هنا
للعودة إلى بداية المقال إضغط هنا