لما اتخذ الإخوان المسلمون قرارهم بالاعتصام في ميدان رابعة العدوية انتابتني حالة من الذهول المبرر، وصرت أردد بيني وبين نفسي: إن الأمور تجري بمقادير، ذلك أن رابعة العدوية التي كانت بلا شك أعظم أخواتها البنات شأنا سميت بهذا الاسم لأنها كانت رابع بنت تولد لأبويها، ولك أن تتصور ما حدث ممن تلقفتها عند الولادة حين فوجئت بأنها بنت وليست ولدا، وبدلا من أن تقول: أمورة أو عروسة أو جميلة، قالت: رابعة. لكن الوالدين اللذين يكونان في كنف الرحمن ينظران للأمر نظرة أخرى بما يلقيه الله في روعهما من مستقبل ابنتهما، ولهذا سموا ابنتهم رابعة واتخذوا لها كنية “أم الخير”.
أما ما مرّ على خاطري وكأنه شريط سينمائي فكان هو ما حدث للإخوان المسلمين مع العسكر من المآسي الثلاث السابقة؛ في 1953 و1954 ثم في 1965، وكنت أدرك بكل حواسي أن أعداء الإسلام وأعداء مصر معا يجهزون للمأساة الرابعة، وها هي المأساة الرابعة تتجهز حول الميدان المسمى باسم رابعة العدوية. كنت واثقا من نصر الله لكني كنت أعرف أن النصر ليس دنيا فقط، لكنه دنيا أو شهادة. كنت أستحضر كتابتين موسوعيتين سابقتين لي عن رابعة العدوية، وأرى في قصتها ملامح قصة تعاد روايتها بلغة العصر، أي بلغة السياسة كما بلغة الفكر.
ولدت رابعة العدوية في كوخ من أكواخ البصرة لأسرة فقيرة متدينة، ونسبتها العدوية إلي بني عدوة، وهم فخذ من آل عتيك، وهؤلاء بطن من بطون قبيلة قيس المشهورة، وقد نشأت نشأة دينية فحفظت القرآن في سن مبكرة، وعرفت طريق العلماء. وليس هناك إجماع على سيرة حياتها الأولى قبل أن تزهد في الدنيا وتصبح مثلا أعلى لكثير من اللاحقين بها، لكن المؤكد أن بعض ما يروى عن هذه الحقبة حقيقي، والبعض الآخر تخيلي، وقد اختلط هذا بذلك على نحو يستعصي على التحقيق، ومن هذا الخضم المتراكم عن رابعة يمكن تلخيص أو تصور بعضه، فلربما دفعتها الحاجة إلى البحث عن لقمة العيش، ولربما قادتها إلى الرق، ولربما قادها الرق إلى بعض ما يصحبه من العمل بالفن وإمتاع السادة وما إلى ذلك كله، ولربما كانت في أول شبابها عابثة لاهية، مدفوعة بنزوة أو بحاجة، على أنها بعد هذا أخلصت للعبادة إلى الحد الذي أصبحت فيه رمزا من رموز التدين والتصوف، بل العشق الإلهي.
إخلاص رابعة العدوية لفكرة الزهد وحب الله وتقليبها لظاهر هذه العقيدة وباطنها، كان كفيلا بأن يصل بها إلى ما وصلت إليه من هذا الإدراك العميق لطبيعة العلاقة مع الخالق سبحانه وتعالى
ويعزى السبب في هذا إلى معرفتها بأحد زهاد البصرة الصالحين؛ وهو رباح بن عمرو القيسي، وكان قريبا لها، ويقال إنه تزوجها، ومع هذا فإن الثراء الروحي الكبير الذي ظهر في آثارها والمرويات عنها، يدل على نفس شاعرة ذات بصيرة وتفلسف وإدراك لا حدود له، ويكفي أننا نستطيع أن نجزم من خلال دراسة الآثار الأدبية المتاحة لنا أن رابعة العدوية كانت أول من تغني بنغمات الحب الإلهي نثرا وشعرا، وقد كان هذا التغني الذي ازدهر على يديها (وبدأ كذلك على يديها) بمثابة فتح جديد في الأدب العربي، وهذا على سبيل المثال هو السبب في أن قاموس الأدب العربي يحوي مادة عنها، كنت أنا الذي تشرفت بكتابتها في الطبعات المتعددة لهذا القاموس.
كذلك كان أسلوبها فتحا في المسالك الصوفية، وهو ما جعلنا نخصص لها مداخل في موسوعات الفكر الإسلامي والمفاهيم الإسلامية، وباختصار شديد؛ فإن رابعة فتحت مجال قول واسع المعاني، رفيع الغاية، وقد أضاف هذا المجال كثيرا من المعاني والسمو للأدب العربي والشعر العربي بوجه خاص، ولا جدال في أنها كانت أول من تغني في رياض الصوفية بنغمات الحب الإلهي شعرا ونثرا.
ومن الإنصاف أن أشير إلى أن أبرز من تنبهوا إلى محطة رابعة في تاريخنا العقلي كان هو الأستاذ أحمد أمين، وإلى هذا المعنى أشرت منذ قرابة ثلاثين عاما (في 1989) في كتابي “أدباء التنوير والتأريخ الإسلامي”. وبالطبع، فإن رابعة العدوية لم تكن تقصد أن تنشئ هذا التوجه، لكن إخلاصها لفكرة الزهد وحب الله وتقليبها لظاهر هذه العقيدة وباطنها، كان كفيلا بأن يصل بها إلى ما وصلت إليه من هذا الإدراك العميق لطبيعة العلاقة مع الخالق سبحانه وتعالى. ونستطيع القول إن أدبيات رابعة العدوية قد تجاوزت كل التراث الصوفي والأدبي السابق عليها، وكان الفضل في هذا راجعا إلى عمق التجربة النفسية والشعورية التي سيطرت عليها، وما انعكس من تصوير لهذه التجربة فيما تركت من آثار نقلت عنها شفاهة.
وقد كان لأحمد أمين أيضا فضل المقارنة بينها وبين الحسن البصري، حيث أشار إلى أن “الحسن كان مغمورا بنزعة الخوف، أما هي فكانت مغمورة بنزعة الحب، ولا شك أن نزعة الحب أرقى بكثير من نزعة الخوف”. ويقول أحمد أمين في موضع آخر: “قد يجوز أن يكون مَنْ أتى بعدها قد تأثر بمعاني الحب التي قيلت في الثقافات المختلفة، أما هي فما نظن أنها تأثرت بذلك، وإنما هي موجدة وجدتها في نفسها تغنت لها الغناء بهيجا، كالموجدة التي كانت عند الخنساء فغنت لها طويلا غناء حزينا”. وربما نعود إلى معاني رابعة مرة أخرى إذا وهبنا الله العمر.
تم النشر نقلا عن موقع الجزيرة نت
ولقراءة المقال من مدونات الجزيرة إضغط هنا
للعودة إلى بداية المقال إضغط هنا