طيلة ما يزيد على ثلث قرن من الزمن عبرت تجربة مجلس التعاون الخليجي عن مرحلة هادئة ومتنامية وثابتة الخطى من نشدان النجاح في ميادين متعددة بعيدا عن الانشغال بإزالة الخلافات وحل النزاعات وتذويب الفوارق.
وكثيرا ما تمثلت زهوة تحقيق النجاح الذي وصف به المجلس نفسه في القدرة المحسوبة على تجنب نقاط الاختلاف أو تبريد النزاعات القديمة بدلا من الانحياز لمغريات سياسات مطلوبة لكنها شائكة من قبيل فتح الملفات ووضع الحلول وتصفية المُعلقات.
وليس من المبالغة القول إن تحاشي نقاط الخلاف كان عاملا من أهم العوامل (بل ربما كان بالفعل أهمها) التي ساعدت المجلس على المضي في طريقه وإطالة مسيرته بل إطالة عمره إلى المدى الذي وصل إليه.
بيد أن السؤال المنطقي الذي يفرض نفسه في خضم الأحداث المتعاقبة بتعقيداتها وتشابكاتها هو هل تستطيع هذه السياسة أن تمثل البديل الأفضل للمجلس في المستقبل؟ من حسن الحظ أن تأمل طبيعة الأزمة الحالية ينبئنا أنها لا تتعلق بمجلس التعاون الخليجي ولا ببنيته إلا بقدر أقل من ارتباطها بتحولات فكرية (سعودية وإماراتية) لا تزال في دور التشكيل، وهي لا تزال بمثابة تحولات نظرية انتقالية لن يكون لها بحكم تلفيقها الاضطراري دور كبير في التأثير المستقبلي.
لعل السبب الأول الذي يدعوني إلى تبني هذه الرؤية هو تشخيصي لأزمة دول الحصار مع نفسها ومع الواقع بأنها مع ضخامتها لا تعدو أن تكون ظاهرة مرضية وقتية من النوع الذي يتعلق جوهره بالإحساس بالتناقض ما بين الجوار الجغرافي والتباين الجيولوجي.
“مهما يكن من أمر التخوف على تصورات الماضي وتطورات الواقع القلق القابل للاشتعال في لحظات كثيرة فإن هناك خوفا لا يزال يلفت المعنيين بالإستراتيجيات لأنه أكبر وأعمق وهو الخوف على اقتصايات الخليج العربي واستقراره، وهو خوف مشروع فضلا عن أنه ملح”
والمعني المقصود من هذه العبارة المختصرة يرتبط بدراستنا لكوكب الأرض التي نعيش عليها ونمارس عليها سياساتنا (وحماقاتنا السياسية أيضا) فإذا كانت دراسة آفاق الأرض وسطحها أو بعديها الأولين تمثل وظيفة علم الجغرافيا فإن دراسة بعدها الثالث المرتبط بالعمق تمثل اختصاص علم الجيولوجيا، وهنا نستعير مصطلح الجيولوجيا للتعبير عن طبقات الوعي الفكري والحضاري في المساحات المتجاورة من أرض عربية واحدة وشعب عربي واحد.
نحن لا نستطيع أن نتجاوز حقيقة تقول إن كيان مجلس التعاون الخليجي ووجوده قد اعترضتهما هزة زلزالية مدمرة تمثلت في عنصر المغامرة في حصار قطر (لا في الحصار نفسه)، ودراسة الهزات هي كما نعرف من آفاق الجيولوجيا، ومن المتفق عليه بالواقع والعقل معا أن الصورة الأكبر من ملامح هذه المغامرة قد رسمت خارج المحيط الجغرافي للمجلس وخارج محيطه المعنوي والأخلاقي أيضا؛ ولا يمكن القفز من هذه الجزئية دون الإشارة إلى أنها جزئية باعثة للأمل عند الرغبة في تجاوز الحزازات، لأنها تقول إن المرض وافد وليس متوطنا.
صحيح أن هذه الهزة كانت من الشدة بالدرجة الكفيلة بإنهاء وجود المجلس منذ يومها الأول، وهو ما راج في توقعات الغربيين، بيد أن هذا التطور السلبي أو التخريبي المتسق مع الطبيعة البشرية ومع الانفعالات الطبيعية للسياسات الإقليمية لم يتحقق لحسن الحظ بسبب توجهين مثاليين توافرا وتآزرا بقدر هائل فاق كل توقع للإيجابية الخلقية، وهما قدرة القيادة القطرية الفائقة على ضبط النفس وقدرة القيادة الكويتية النشطة على احتواء التصريحات العصبية واستيعاب الخلفيات الانفعالية، وبهذين العنصرين أمكن العبور بالأزمة من عنق زجاجة الانفعال المبرر إلى فضاء لم يكن كبيرا بما يكفي لتحقيق الاتفاق لكنه في الوقت ذاته كان كافيا لإعاقة التعجل في تعميق الشقاق.
وفي هذا الفضاء برزت أسئلة مهمة عن قدرة الماضي بكل ندباته على التحكم الخطر في حاضر مزدهر تحكما سلبيا يلقى بأثره المتوقع على مستقبل بدا قلقاً إن لم يكن متسما بالهشاشة في التفكير ومن ثم في التدبير.
ومهما يكن من أمر التخوف على تصورات الماضي وتطورات الواقع القلق القابل للاشتعال في لحظات كثيرة فإن هناك خوفا لا يزال يلفت المعنيين بالإستراتيجيات لأنه أكبر وأعمق وهو الخوف على اقتصايات الخليج العربي واستقراره، وهو خوف مشروع فضلا عن أنه ملح؛ ومن المهم أن نلتفت إلى حقيقة التلازم في أن مشروعية هذا الخوف تتمثل في إلحاحيته كما أن إلحاحيته تتمثل في مشروعيته، وقد جاء هذا التضافر الشديد في صفات هذا الخوف كنتيجة طبيعية لما هو معروف من إيجابيات التعاون الاقتصادي الكثيف بين دول المجلس، وهكذا يتجدد قلق البورصات كل يوم ليرتفع بالحالة من درجات التوجس المعقول إلى درجة الخوف الصريح.
وبعيدا عن المقاربات التقليدية التي تستهدف استعراض حجم المخاطر وتأثيراتها فإن هناك مقاربة سياسية فكرية يتعمد الباحثون والمعلقون تنحيتها جانبا مع اختلاف دوافعهم إلى قرارهم بالتنحية، فبعضهم يعتقدون أن الأمر الواقع الآن قد تجاوز السبب إلى التعامل مع الأثر الراهن الذي أحدثه السبب، والبعض الآخر يعتقد أنه لا جدوى من فهم سبب أو سببين، لم يزد دوره (أو دورهما) على تأجيج أسباب حقيقية أو بعث خلافات مستكنة أو تقليب هواء ركد تياره بعض الوقت.
وحتى لا يغرق المقال فيما يغرق فيه أمثاله من التنظير لدوافع الخلاف الأخير أو الخلافين الأخيرين اللذين قادا إلى أزمة حصار قطر فإننا سنكتفي بتأمل التطورات الجنينيىة التي مر بها الخلاف في مراحل متعاقبة سبقت ولادة الخلاف في صورة مشوهة ومتشوهة في الوقت ذاته.
وفي هذا الميدان فإنني سأكتفي بإضاءة مناطق غير مأهولة من مسار الاختلافات قادت في نهاية الأمر إلى هذا السيناريو المزعج للجميع، وهو ما يمكن تلخيصه بل تشخيصه بدءا من ظاهرة مفاجئة صنعتها رعونة الأطراف السياسية العربية التي وجدت نفسها فجأة وبلا تدريب مطالبة بأداء أدوار البطولة الكاملة على المسرح الموسيقى.
هذه الظاهرة عميقة الدلالة كانت هي الانزعاج الأميركي الصامت من فجاجة أسلوب السعودية والإمارات في إظهار دورهما في صناعة ودعم الانقلاب العسكري المصري، فعلى الرغم مما يعرفه أقل المتابعين للسياسة من جوهرية وضخامة وفعالية الدورين الأميركي والإسرائيلي في صناعة الانقلاب وتزويده بمقومات الحياة فإن الدولتين الخليجيتين كانتا مندفعتين مرة وراء أخرى في رسم صورة استحواذهما على دور البطولة، ومع أن هذا الاندفاع كان يصب في مصلحة صورة السلطة الأميركية الحريصة لأسباب كثيرة على إنكار تورطها في أفعال لا شرعية ولا ديموقراطية لها؛ فإن طريقة الدولتين في استعراض صناعتهما للأحداث كانت بلا شك مزعجة لأي حليف لهما.
وقد تتابعت هذه الصور في تجلياتها الصارخة من بيانات التأييد التي لا يمكن التغاضي عن وصفها بأنها كانت مفرطة في التبكير إلى الزيارات الداعمة إلى الأموال السائلة إلى التفاوض مع الدول والمنظمات الإقليمية الشاجبة للانقلاب إلى مساومتهم بصفقات مفرطة الكرم إلى الضغط المكثف على المنظمات وحكومات الدول ذات التوجه المبدئي..
وباختصار شديد فقد أصبح السؤال المتردد في كواليس واشنطن المتعددة يتمحور حول العجب من هذه الحالة من الغرور التي تلبست الدولتين الخليجيتين حتى استطابتا الظهور بدور القوى العظمى التي تقيم الأنظمة وتزيلها بإرادتها هي دون حسبان لإرادة الشعوب؛ وقد تكفلت مجريات الأحداث بكثير من الأيقونات المعبرة عن الصورة المستدعية للانزعاج الأميركي الصامت من قبيل الصعود غير البروتوكولي لقائد الانقلاب العسكري إلى طائرة الملك عبد الله العائد من رحلة استجمام، كان حريصا في نهايتها أن يستعرض بنفسه وعلى قدميه حرس الشرف بمرافقة ولي عهد المغرب، ومن قبيل الزيارة المفاجئة العلنية لوزيري الخارجية السعودي والإماراتي لدول أوربية وما اقتصرت عليه الزيارة من تعديل هذه الحكومات للبوصلة إلى النقيض في مقابل ثمن ضخم.
“تأسست في الفهم الأميركي الراهن وهو بطبيعته نموذج للفكر المرن خاطرة غير مسبوقة حول توفير المواقف المتمناة مقابل ثمن ضخم مادامت هناك أطراف “مشترية” يدفعها الذعر الفكري إلى اللجوء المباشر إلى ملاءاتها النقدية للقيام بالدور السياسي الدبلوماسي الذي كانت تقوم به الحكومات على مدى القرون الماضية”
وليت الأمر في الاستعراض السعودي الإماراتي توقف عند الفعل المتكرر لكنه تعداه إلى استعذاب المباهاة المعلنة بالقدرة على تغيير القناعات بالصفقات.
وهكذا تأسست في الفهم الأميركي الراهن وهو بطبيعته نموذج للفكر المرن خاطرة غير مسبوقة حول توفير المواقف المتمناة مقابل ثمن ضخم مادامت هناك أطراف “مشترية” يدفعها الذعر الفكري إلى اللجوء المباشر إلى ملاءاتها النقدية للقيام بالدور السياسي الدبلوماسي الذي كانت تقوم به الحكومات على مدى القرون الماضية.
وكما هي العادة في الاستقبال الأميركي للأفكار غير التقليدية (الصرعات بلغة الخليج) فقد تدرج الأمر في دراسة هذا التوجه الجديد في المؤسسات الأميركية المختلفة من المخابرات المركزية إلى الإعلام ومراكز البحوث إلي البنتاغون إلى الخارجية إلي البيت الأبيض إلى الكونغرس؛ وبينما كانت هذه المؤسسات تفكر بتؤدة كان هناك مرشح رئاسي صاعد قد بدأ يردد على استحياء أطروحاته القديمة التي ظهر أشهرها في حواره منذ أكثر من ١٥ عاما مع المذيعة الأميركية الشهيرة أوبرا وينفري وهو يعبر عن استكثاره لنعمة الثراء على بعض الخليجيين، وإيمانه بضرورة اللجوء المضمون إلى حلب هذا المصدر التمويلي الضخم، بصرف النظر عن سلامة التسويغ ومداعبته للدعاوى الزائفة حول أدوار أميركية تحريرية أو تأمينية صاغتها الدعاية وضخمتها الدراما وتجاوزتها الأحداث أيضا.
وبينما كان بعض الأميركيين سعداء بصفقات النقود مقابل النفوذ التي عقدها رئيسهم الجديد بمجرد جلوسه في البيت الأبيض، وبينما كانت بقايا الضمير الأميركي عند أميركيين آخرين منزعجة مما قد تؤدي إليه هذه الروح الصريحة في انتهازيتها من تدمير للروح ثم للوجود نفسه، حيث كانت هناك إلحاحات بطلبات جديدة (من قبيل حصار قطر لابتلاعها) وقد ظن أصحاب الصفقات الخليجيون أنها طلبات شبه مشروعة بحكم مبدأ الصفقات المتكافئة أو أنها على أقل تقدير لن تستعصي على مبدأ تكافؤ الصفقات غير الشرعية.
هكذا كان تقدير الدولتين الممولتين وهما تطلبان من الإدارة الأميركية غضا للبصر عن مغامرتهما غير المحسوبة بـ”ابتلاع” قطر مع تقديمها سيناريوهات وُظفت عقول أميركية وإسرائيلية في وضع أنساقها التي شملت اختراقا إعلاميا وافتراء تصريحات تستدعي الرد بحملات جاهزة، ويتصاعد الرد والتجاذب ليغطي أنماطا من اشتباكات حدودية يسندها فرض حصار مفاجئ لتمكين قوات مأجورة من اختراق للسيادة بما يمكن من إحداث تغيير انقلابي يصب في مصلحة ابتلاع الشقيقتين لقطر، ومن ثم الانقضاض على رصيدها وثرواتها وأدوارها الحضارية والإعلامية النشطة والسياسية والإنسانية المنحازة للحق وللحرية والجماهير.
ويبدو بوضوح أن فشل مغامرة الحصار قد جعل التاريخ يبدأ في تصحيح مساره من أجل الشعوب.
تم النشر نقلا عن موقع الجزيرة نت
ولقراءة المقال من موقع الجزيرة إضغط هنا
للعودة إلى بداية المقال إضغط هنا