الرئيسية / المكتبة الصحفية / قصتان من قصص القضاء في العهد القديم

قصتان من قصص القضاء في العهد القديم

القصة الأولي هي قصة قاضي القضاة صاحب المقولة الشهيرة عن المنع والمنح. كان المستشار أحمد حسن باشا سابع رؤساء محكمة النقض المصرية (1949- 1954) قمة بين رجال القضاء وإن كان اسمه غير مشهور عند العامة ومن الطريف أن له موقفين عظيمين في هذه المساحة، وأن أولهما كان موقفا شامخا أصبح مشهورا جدا كما أنه يتردد ذكره بدون ذكر اسم صاحبه.
وكما يقول علماء البلاغة فان لكل مثل مضربا وموردأ. هذه أولا هي قصة الموقف الشامخ. زار الأستاذ أحمد مرسي بدر وزير العدل في الوزارة السعدية محكمة استئناف أسيوط، وكانت منشأة حديثا، فأعجب بانضباط العمل فيها من حيث مواعيد الحضور، وجداول الفصل في القضايا، وانتظام قلم الكتاب والحسابات، مما جعلها في نظر الوزير محكمة مثالية، على المستوى الذي يتمناه المخلصون لمرافقنا كلها.

فلما عاد الوزير المحامي إلى مكتبه أرسل رسالة تقدير لأحمد حسن باشا أثني فيه على كفاءة رئيس المحكمة والعاملين معه، فعرض أحمد حسن الرسالة على زملائه بعد أن جمعهم وأنهي إليهم نيته أنه سيرد هذه الرسالة التي بعث بها وزير العدل لأنها تتضمن ما رآه يمثل اعتداء كبيرا على استقلال القضاء، وقال قولته التي ذهبت مثلا منذ ذلك الحين: “إن من يملك توجيه الثناء والمديح، يملك توجيه اللوم وتوقيع الجزاء”. 
ونأتي إلى الموقف الثاني الذي اختفى تماما بل وأخفى صاحبه بفضل القهر والظلم العسكريين أو الناصريين. لما قامت ثورة 1952 ظن المستشار أحمد حسن باشا أنه لا يزال هناك محل لشجاعته، وانتوى أن يقف موقفا كمثل هذا الموقف الشجاع الذي عرف به من قبل، وكان قد وصل إلى منصب قاضى القضاة إذ كان قد أصبح رئيسا لمحكمة النقض.
وكان البعض قد اقترح على رجال القضاء أن يذهبوا في مسيرة لتحية “الحركة المباركة”، فاستنكر المستشار أحمد حسن باشا ذلك ومنعه. وعندما عوتب في هذا التصرف قدم استقالته. لكن أحدا لا يذكر لقاضي القضاة الموقف الثاني لأنه مكلف. بل إن خطر الموقف الثاني أودى بمجد الموقف الأول.
أما القصة الثانية فتنطق باجتماع معاني النزاهة والعزة والاحترام، وهي قصة كانت معتادة في عصر الليبرالية، وأصبحت غائبة تماما بعد عهد العسكرية أو بسببه. وهي على نحو ما ننقلها متعددة الأطراف ما بين أربعة انتماءات حزبية. فهذا هو محام سعدي كان عضوا في البرلمان يصور الخلق القويم الذي كان جزءا من شخصية أقطاب ثلاثة: رئيس الحزب الوطني وسكرتير عام الوفد ومرشد الإخوان الثاني.
كان الاستاذان محمد صبري أبو علم وحسن الهضيبي من دفعة واحدة في كلية الحقوق، وقد عملا بالمحاماة، ثم اختير الأستاذ الهضيبي قاضيا في 1924 بينما واصل الأستاذ صبري عمله بالمحاماة والسياسة حتى أصبح وكيلا برلمانيا ثم وزيرا وسكرتيرا عاما للوفد أما الأستاذ محمد حافظ رمضان رئيس الحزب الوطني الشهير فقد ظل يمارس السياسة والمحاماة طيلة حياته.

كان رائعا من صبري باشا حين عين وزيرا للعدل أن اختار الأستاذ حسن الهضيبي مديرا للتفتيش القضائي، ثقة منه في أنه خير من يشرف على شئون القضاة
الواقعة التي اخترناها هنا تُروى مكوناتها في مراجع وكتابات كثيرة كما أنها تروى بصياغات كثيرة لكنها جميعا صياغات غير متناقضة، لكن ميزة الرواية التي اخترناها أنها مكتوبة بقلم محمد شوكت التوني وهو محام معروف بانتمائه للحزب السعدي أي أنه من المفترض نظريا أن يكون هو الرابع على خلاف مع كل بطل من الأبطال الثلاثة للقصة!

قال الأستاذ محمد شوكت التوني في كتابه “أحزاب وزعماء”: “…. حدث أن كان الأستاذ الكبير المغفور له حسن إسماعيل الهضيبي ـ مرشد الإخوان من بعد ـ قاضيا بمحكمة سوهاج، ودخل عليه المرحوم الأستاذ محمد صبري أبو علم المحامي في غرفة المداولة فتعانقا، فقد كانا أبناء دفعة واحدة وفرقت بينهما الأيام، ورحب القاضي بزميله المحامي، وطلب له فنجالا من القهوة وتحدثا حديثا وديا، وكان قد نشر في الصحف أن المرحوم محمد صبري أبو علم سيعين وكيلا برلمانيا لوزارة العدل، وقد جاء ذكر ذلك في باب التهنئة من زميل لزميله، وقال صبري أبو علم ردا للتحية: إذا كنت ترغب في النقل إلي مصر فقل لي، أنفذ رغبتك فورا بعد تعييني”
“وكان الفراش قد أحضر القهوة، فثار الأستاذ الهضيبي وأمر الفراش بإرجاع القهوة، وكان رده على حديث صبري باشا عنيفا جافا، إذ قال له: عن إذنك يا أستاذ، إنني سأفتح الجلسة، وانصرف عنه دون تحية، غضبا من قولته”.
ولا تقف الأمور عند هذه النهاية وإنما هي بداية جديدة لمسار جديد: “هذا الحديث سمعته من المرحوم صبري باشا، وكان موقفا رائعا من المرحوم الأستاذ الهضيبي، كما كان رائعا من صبري باشا حين عين وزيرا للعدل أن اختار الأستاذ الهضيبي مديرا للتفتيش القضائي، ثقة منه في أنه خير من يشرف على شئون القضاة”.
وتتوالى أو تتكرر هذه الأمجاد مع الوزير الذي خلف أبو علم في الوزارة: “وقد خلف صبري باشا أبو علم في وزارة العدل حافظ باشا رمضان، وفي يوم من أيام إعداد الحركة القضائية، سأل الوزير الأستاذ الهضيبي عن موقف التفتيش من قاضٍ سماه الوزير، فرد الأستاذ الهضيبي: “لقد تُرك في هذه الحركة، كما تٌرك من قبل”. “وسأله الوزير: لماذا؟ ورد الهضيبي: لأنه حمار!”. “فقال المرحوم المستشار كامل البهنساوي مدير مكتب الوزير في ابتسامة عذبة: “لاحظ يا حسن بك أن القاضي قريب معالي الوزير!”. “فرد الهضيبي: هذا لا يغير من أنه حمار، وانصرف، ولم يُرق القاضي قريب وزير”.

تم النشر نقلا عن موقع الجزيرة نت

ولقراءة المقال من مدونات الجزيرة إضغط هنا

للعودة إلى بداية المقال إضغط هنا

شارك هذا المحتوى مع أصدقائك عبر :
x

‎قد يُعجبك أيضاً

حماس على طريق النصر

لما ظهرت حركة حماس إلى الوجود دارت مناقشات متعددة حول جدواها ومستقبلها، ...

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com