من نعم الله الظاهرة علينا في هذا الجيل أننا أدركنا فترة من الحياة نعيش فيها عصر الانكشاف التام، حيث يصعب إخفاء الخبر -أيًّا ما كان- أو التكتم عليه إلا في حدود ضيقة جدا تتصل بسيطرة الفاعل نفسه على البوح، أما ما عدا ذلك من محاولات السيطرة على ما يذاع وما لا يذاع فقد أصبحت في السنوات الأخيرة ضربا من ضروب المستحيل.
ومن البدهي الآن أن هذا المستحيل لم يعد من الممكن تخيله أصلا ولا فصلا ولا وصلا، أي أنه أضحى غير ممكن من حيث المبدأ ولا من حيث التكوين ولا من حيث الزمن (زمن عصر الاتصال الذى نعيشه).
وإذا أردنا أن نعبّر عن جوهر الحسم في مجموعة المعارك المتتالية التي تمكنت فيها قطر من الانتصار على الحصار (فكرة وإجراءات ودولا)؛ فلا بد لنا من إدراك حقيقة دقيقة، وهي أن العصر نفسه ينحاز للثورة -كما تفعل قطر- ولا ينحاز ضدها كما تنحاز دول الحصار.
ذلك أنه عصر ثائر حتى على ذاته واسمه وهويته، حتى إنه بدأ يترك التعبير عن نفسه بالجمع إلى التعبير بالمفرد، مع توجه الاتصالات الحثيث إلى توحّد متكثف في فعل اتصالي واحد مهما تعددت التجليات المعرفية والتقنية فيه، وذلك على نحو ما يدركه المتأمل في مشاركة العالم كله في تقديم العون الفني لمغرد ما في تغريدة صغيرة من 140 حرفا.
وفضلا عن هذا؛ فإن الوعي بحقيقة جوهر الصراع السياسي والاجتماعي التي تتحكم في عالم اليوم صعّبت تماما أية محاولة من محاولات التلوين المغرض للحقيقة، بل إن الحقائق الفنية أصبحت تتمتع بقدرات ذاتية على التعبير الفني في أطوار أو طرز من الأطر الظاهرة بلونها الأصلي، مهما كانت الإمكانات متاحة في خدمة المستهدَفين بالتلوين.
ومن العجيب أن مناقشاتي المحتدمة حول هذا النقطة -في سنوات سابقة- كانت تدفع الطرف الآخر للنظر إلى شخصي على أنني مستحق للرأفة بسبب غرقي في ميتافيزيقا الإيمان، بينما كنت أرى عن يقين أن صناعة الإعلام لن تقف عند حدود التوظيف المرحلي لدور تعبوي في سباقات النفوذ.
لكنها -بحكم طبيعة الأشياء وبحكم نظرية الإنتاج- ستتحول إلى خدمة الفن، بكل ما يتميز به الفن على الصناعة من سمات الصدق والانفعال والفرادة والانطباعية والتأثيرية والذاتية.
وفي هذا التحول من آليات خدمة الصناعة إلى آليات خدمة الفن ترتفع قيمة الصدق النفسي باعتباره مكونا حاسما من مكونات تفوّق الفن على الصناعة في التأثيرين المباشر والعميق، وعند هذه اللحظة فإن جهود الشحن الإعلامي الذي تمارسه الكيانات السياسية سرعان ما تتبدد أمام أية خطوة صادقة مصادفة، يقوم بها المؤمنون بعدالة قضيتهم مما كان نفوذهم المادي ضعيفا.
ربما لا يكون من اللائق أن أقفز إلى أرض الواقع لأستحضر للقارئ صورة معركة غير متكافئة مع السلطة وجبروتها، حين تريد إخلاء قطعة صغيرة من الأرض التي ستقيم عليها شركةٌ كبرى مشروعَها الاستثماري الضخم، وترى القانونيين والرسميين يعرضون على الشاشة حجج الملكية وإنذارات الإخلاء القانونية، وأحكام المحاكم النهائية وخرائط التخطيط الموثقة.
ثم تظهر -بمحض المصادفة- عجوز في أسمالها فتمرّ دون عناية إلى جوار الكاميرا لا أمامها، وتبرطم كلماتها بلغة غير مفهومة لكنها -بفضل تعبيرات بسيطة يؤديها الوجه والجسد- تصبح مفهومة الدلالة، لأنها تدعو الله أن يشرد هؤلاء المسؤولين المفترين كما شردوها وشردوا الآلاف من أمثالها.
في هذه اللحظة تنهار الصورة الإعلامية “المصنوعة” أمام ذلك التوثيق الفني “الفطري” غير المخطط، والحاوي لمشاعر كاملة الصدق لا توهب إلا لأهل الفن (ولا توهب لأهل الصناعة)، وهي في حقيقة الأمر تتدفق لتكون رافدا من روافد نهر الحق الذي يروي ويغذي الإنسانية، في سعيها الدائب نحو ما هو إنساني مما يستحق الانتصار على ما هو شيطاني.
لا أحب أن أستطرد في جزئيات جدلية حول ما هو متوقع من الإعلام الجديد في مواجهة ما هو بسبيله إلى التكريس على يد الإعلام القديم حين يتضفر معه عن قريب، لكنني لا أستطيع أن أتخلى عن التعبير عن إيماني بأن هناك فضلا كامنا في زيادة جرعات التناول الإعلامي لأية قضية.
وهو ارتفاع نسبة الأمل في هتك الأستار عن الغرف السود (أو المناطق المظلمة) من موضوع الصراع أو قضيته، وليس هذا بالأمر الهين في عصر تتسارع فيه خطوات تزييف الحقائق وتغييب العقول، ونفي المنطق ومحاربة الإيمان.
وعلى سبيل المثال؛ فإنه منذ فوجئ العالم بحادث قرصنة وكالة الأنباء القطرية -أواخر مايو/أيار الماضي- وجد البشر أنفسهم أمام حزمات متتابعة من شحنات الحقد المنقولة عبر الفضاء الإعلامي الكوني، والمرتبطة في الوقت ذاته بجرعات داعمة ومدعمة من الإجراءات اللوجستية الحثيثة المتعددة الصور، والتي يجمعها هدف واحد هو اجتياح قطر من كل منظور.
لم تستهدف هذه المعركة قطر وحدها بل استهدفت معها إنهاء وجود النسق الحضاري والإنساني الذي تمثله قطر، بكل ما يحتويه هذا النسق من إيجابيات غير مسبوقة في مد مظلة البر والعمل الخيري، وتوظيف المال بعناية وحدب في تقديم المعونات الغذائية والتعليمية والطبية إلى من يستحقونها بشدة في كافة الأرجاء المسكونة من عالم اليوم.
حدث هذا رغم أن البشرية تكاد تُجمع -فيما تصرح به وتكرره في مواثيقها- على ضرورة توجيه العناية إلى الإنسان الذي لا يزال يعاني من قسوة بطش الفقر والجهل والمرض، في ظل سيادة مفاهيم يوجينية عنصرية لا ترحب تماما بتشجيع أو إنقاذ حياة المرضى أو المعدمين، وإنما تميل دون إعلان إلى الترحيب بأن تنتصر الطبيعة القاسية على وجودهم.
بل إننا لا نظلم الحقيقة إذا قلنا إن بعض التناول الأميركي الراهن لقضايا العوز أصبح يوحي بالموافقة على التخلص من حياة البشر الذين صنعت بؤسهم الإمبريالية، التي تتضجر من وجودهم في صورة كئيبة لا تقلق الضمير الإنساني المترف بقدر ما تقلق الحواس البشرية التي أصيبت مع طغيان المادة بنزعات حيوانية مفترسة تتجاهل الأخوة الإنسانية تماما.
تتصور أن من حقها أن تنفرد بالكون من دون أن تنزعج مشاعرها بمظاهر البؤس أو التشرد التى يعانيها بعض البشر، من جراء مضاعفات السياسات النهبية والإمبريالية التي مارسها الأمبرياليون والاستعماريون من أجداد هؤلاء اليوجينيين بقسوة وضراوة.
ومن الحق أن نشير إلى أن قطر كانت -رغم محدودية مواردها مقارنة بالعالم الواسع- تبدو بفضل الإخلاص والدأب وكأنها المدينة الفاضلة، التي بشرت بها منذ الزمن القديم بعض نزعات الأنسنة المتفلسفة، في استهدافٍ مشروعٍ ومستحب لاستئصال البؤس والعوز أينما وُجدا.
وليس من قبيل المبالغة القول إن ممارسات قطر الخيرية في السنوات الأخيرة حققت ما يقارب المثل الأعلى في برامج الأخوة الإنسانية متعدية الجنسيات والأعراق، منذ أن أطلق الآباء المؤسسون للمنظمة الدولية الحالية -التي هي الأمم المتحدة (وفي مقدمتهم الرئيس الأميركي فرانكلين روزفلت)- دعوتهم التي كان لا بد منها للقضاء على الخوف من العوز كحق من حقوق الإنسان.
بقي أن نشير إلى حقيقة يعلمها القارئون لأبجديات الصراع البشري على مدى التاريخ، وهي أن الذين يحاربون الفضيلة لا يجرؤون على الجَأْرِ بمحاربتها، لكنهم يزعمون مثلا أنهم يريدون أن يرشدوا الإنفاق الغزير على شكلياتها، بينما هذا الذي يتحدثون عنه ليس إلا إنفاقا رشيدا من أجل جوهر الفضيلة.
تم النشر نقلا عن موقع الجزيرة نت
ولقراءة المقال من موقع الجزيرة إضغط هنا
للعودة إلى بداية المقال إضغط هنا