نبدأ بالإشارة إلى ما تعزز في وجدان المراقبين السياسيين من إدراك لسيادة المطامع المادية كجوهر للاعتداء على قطر وثروتها، وهو الاعتداء الخبيث الذي اتخذ في ظاهره صيغة الحصار المتعنت، ورفع شعارات زائفة تدين المحاصرين أنفسهم قبل غيرهم.
ومع هذه الإشارة؛ نلفت النظر إلى أن هذا العنوان الذي يطالعه القارئ ليس مقصودا لذاته ولا لموسيقاه؛ وإنما هو تعبير موجز عن الوجه الفلسفي في هذا الصراع الأخير بين فكرتيْ الإيمان والطغيان. وعلى سبيل التحديد: بين الإيمان المستند إلى الاستبصار والطغيان المعبّرعن الاغترار.
منذ عشر سنوات؛ كنا في ملتقى لغوي عربي شبه رسمي وتطرق النقاش فجأة إلى السؤال عن مقصد أمير الشعراء أحمد شوقي من قوله: “النيلنجاشي”، وتداول الحاضرون أفكارا إبداعية رائعة، وظّفت التقنيات النقدية والمعجمية في فهم صياغة الاستعارات والمجازات اللغوية على نحو متوقع من ذخيرة المتناقشين اللغوية والأدبية.
فلما انتهوا من مناقشاتهم -التي أفدتُ منها كثيرا من العلم- استأذنتهم في أن أعرض رأيي البسيط الذي لا أزال مؤمنا به، وهو أن الأمر لا يعدو الكناية فحسب؛ فقد اختار الشاعر شوقي شخصية الملك النجاشي لتكون أيقونة لإعطاء الأمان، وهكذا وصف النيل بأنه يعطي الأمان قاصدا الأمان بمعناه العام والكلي الذي يشمل الأمن الغذائي والحضاري، وهو ما يوفره النيل بمائه وبما يحمله من خيراته ، هذا فضلا عن سعة واديه الظليل التي تمنح الأمان السياسي للذين يفتقدونه!
وقد كانت الحالة التي مارس بها النجاشي مكرمته السياسية حالة فريدة وبارزة في تاريخ الإنسانية كلها، كما أنها بقيت بمثابة النموذج الأول والأبرز في تاريخ حرية العقيدة وحرية الفكر، في ظل وجود مجتمعات متصلبة الفكر وجانحة بشدة إلى مقاومة نور الجديد والحق والحقيقة على حد سواء.
وسواء أمات النجاشي على الإسلام -كما تقول أغلب الروايات- أو على دين آبائه؛ فإن مكرمته الرائعة قد بقيت مخلدة هي وعدله وعقله. كما شاء الله أن نتذكرها دوما مع النيل المتدفق من أرض النجاشي، منحدرا هادرا بفيضانات الحياة والتجديد والعطاء والتطهير.
ثم جاء الزمان الإلكتروني الذي نعيشه بتطور مستهجن في التعبير عن بعض مشاعر الإنسانية المغترة بالثروة البنكنوتية؛ فظن بعض أصحاب هذه الثروات المستحدثة أن بوسعهم تحقيق الانتصار على نزعات التدين الفطرية المتاحة في الطبيعة الإنسانية الهادرة، وما أثمرته من تجليات الانتصار والارتقاء بالإنسانية على مر العصور الخالية منذ وُجد الإنسان على ظهر الأرض.
وبدؤوا يتصورون أن بإمكانهم السعي لإعادة تصوير جوهر الدين ليخرجوه من القلوب الحية إلى الصالات المغطاة والأرواح المقيدة، بدلا من تجلياته في ساحات العبادة المكشوفة. وأسعفتهم الماديات في وضعهم لخططهم كما أسعدتهم تصورات علمية مقولبة ومغلفة، بعدما صيغت في دراسات ظاهرة الصواب في استنتاجاتها المبنية على مقدمات تبدو للوهلة الأولى منضبطة وإن لم تكن كذلك.
بيد أن كل هذا التدبير سرعان ما فقد القدرة على البقاء أمام ثلاث ظواهر فسيولوجية وسيكولوجية بالغة التعقيد:
– الظاهرة الأولى هي ظاهرة الملل البشري المفاجئ والمطلق وغير الخاضع للتوقع أو الحساب، وهو ما يُعبر عنه عمليا بالانقطاع المفاجئ عن مواصلة الأداء وفق القواعد المنضبطة التي رسمتها “سبرنتيقا” (علم التحكم ودراسة آليات التواصل) المعرفة العقلية لمخ الإنسان. وهي الظاهرة التي يُعبر عنها المتعاملون مع أجهزة الحواسيب باللفظة العربية “التعليق” أو المعرّبة “التهنيغ” (توقف الجهاز أثناء تشغيله).
وفي حالات المشاعر العليا التي تشمل تجليات التدين قبل أن تشمل الحب والكره والولاء والانتماء والبراء؛ فإن هذه الظاهرة تتبدى في صورة غير قابلة للتفسير حتى وإن بدت وكأنها قابلة للتوقع، وكثيرا ما يحار المحللون لها في سببها حتى يصيبهم -وهم المراقبون فحسب لا المصابون- الذُّهان أو ربما مس من الجنون.
وقد كان كبار أساتذتنا من الأطباء الممارسين -حتى ممن يفتقدون الإيمان التقليدي- ينظرون إلينا في نهاية مناظراتهم لمثل هذه الحالات، فينبهوننا إلى جدوى إيمان البشر بالقدَر في تعاملهم ومقاربتهم لمثل هذه المشكلات حين تصيب ذويهم.
ولست أتجاوز الحقيقة حين أقول إن بعض أساتذتنا -الذين كانوا بعيدين عن الدين باختيارهم- كانوا يتجاوزون المنطق، فيصورون الأمر وكأنه حظ من حظوظ الذين لا يعرفون العلم؛ فتسعدهم جهالتهم بالرضا بالقدَر فيستغل المتدينون (من أمثالنا) هذا ويسمّون الجهالة إيمانا بالقدَر!
ومع هذا يظل الإيمان بالقدر عصيا على هذه الطائفة من الحداثيين المغترين بثروة البنكنوت، معتبرين أنه قد يمثّل بديلا أفضل من اللاهوت.
– الظاهرة الثانية لن تحتاج منا كثيرا من الشرح في ظل التمهيد للفكر المادي الذي قدمناه عن نظرة الماديين للظاهرة الأولى، ومع هذا فإن هذه الظاهرة -التي حدس القارئ أنها فكرة الاستشهاد- لا تزال تستعصي في فهمها على أعداء الدين مهما حاولوا مناوأتها بالتخرصات الممنهجة، أوالتفسيرات المتناقضة، أو التهيؤات المفتعلة.
وقد كنت أشرت في كثير من كتاباتي إلى منهج تتبناه معاهد أميركية مغرورة بظروفها وضلالاتها، يقول باحثوها -وهم مفرِطون في التكرار الآلي المقيت- إن أهل السنة المسلمين يستعذبون الجهاد والاستشهاد لما يؤدي إليه من الاستمتاع غير النهائي بالمتع الحسية في الآخرة حسب الوعد الرباني، وهي متع تتمثل في الحور العين والشراب.. إلخ، وهي عناصر متعة يقولون إنها غير متاحة لهؤلاء في الدنيا بالقدْر المتاحة به عند المسلمين من طوائف “الشيعة”.
وبالطبع فإن أي مسيحي متدين أو عاقل يستمع إلى مثل هذا الهراء سرعان ما يستنكر أن يكون قائله من ذوي العقول، لكن الإسلاموفوبيا وآلياتها لا تزال مقتنعة بتوظيف ترديد هذه الفكرة، وحشد المستمعين إليها في الندوات وتلميع أنصارها في الفضائيات.
وخلاصة القول إن فكرة الاستشهاد تنقض بعض ما يوصف بأنه خضع لمنطق الحسابات العلمية، فتجعلها -في أقصي تقدير معلوماتي- لا توصف بأكثر من أنها مسودة حسابات شبه علمية محدودة العينة.
– الظاهرة الثالثة تتعلق بالفهم الإنساني لفكرة الإرادة الإنسانية؛ وبعيدا عن الطيف الواسع لاختلاف الفلاسفة وعلماء الكلام المسلمين في حدود هذا العنصر غير المتفق عليه؛ فإن عامة المسلمين لا ينكرون وجود الإرادة الإنسانية.
ومع هذا؛ فإن هناك أكثر من وجه من أوجه المفارقة حين يتشابه بعض الحداثيين مع بعض ذوي التصورات القديمة الميالة إلى نفي الإرادة. بل إن ثلاثية متكونة من الرؤى الاستعمارية والسلطوية والبطريركية تتماس بشدة مع بعض الرؤى الجبرية والقدرية تماسا عجيبا لكنه مفهوم، وإن اختلفت منابعه من ناحية، واختلفت دوافعه من ناحية ثانية، واختلفت منافعه من ناحية ثالثة.
وفي ضوء تأملنا السريع -ولا أقول العميق- للجوهر الذي يجمع بين فكرة الاستشهاد والانقطاع والإرادة، وبين التدافعات السياسية التي نشأت عن وصول الخلافات الخليجية الأخيرة إلى مرحلة الحصار؛ فإننا نستطيع أن نقول إن قرار الحصار -وما تلاه من معقباته غير المتعقلة- عاد بالإنسان سيرته الأولى.
وبذلك تكون المعركة الحقيقية صراعا بين التقدم الإنساني الذي يستلهم القيم السماوية، بكل ما فيها من استخلاف للإنسان ومحاسبته على الأمانة التي تصدى لحملها (وهي الحالة التي وجدت دولة قطر نفسها وأهلها منفردة بها)، وبين الرغبة في عبودية سهلة للآلة السفسطائية التي تقدس القوة وتستنيم للّوذ بأحضانها (وهي الحالة التي رأتها تمثل الصواب العصري كل من الإمارات ومَنْ أُعجِب بها وسار على نهجها).
وهكذا أصبح الصراع اليوم يكاد ينحصر بين إيمان يبحث عن أمان، أو إيمان يبحث عن النجاشي العربي فلا يجده إلا في “قطر”، وسطوة بنكنوتية تظن أن من الواجب عليها أو أن من واجبها “إجهاض” العودة إلى الإيمان، أو على أقل تقدير “وأد” هذه العودة وهي في مهدها إذا قُدّر لها أن تفلت من كل أساليب وأسلحة الإجهاض.
بيد أن تطورات الصراع قالت بكل وضوح: إن الأمل في سيطرة وانتصار فكرة إجهاض الإيمان أو وأده قد تلاشى، وإن كان هذا لا يعني بالطبع أن الإيمان حقق انتصاره النهائي، ذلك أن الخالق -جَلّ في علاه- لم يَأذن بهذا بعدُ.
تم النشر نقلا عن موقع الجزيرة نت
ولقراءة المقال من موقع الجزيرة إضغط هنا
للعودة إلى بداية المقال إضغط هنا