التوتير ببساطة شديدة هو أن تجعل الطرف الآخر متوترا؛ وتدلنا الخبرة بالحياة على أن بعض الذين يلجؤون إلى توتير غيرهم يفعلون ذلك دون أن يكونوا هم أنفسهم متوترين، لكن الأغلب الأعم أن الذين يلجؤون إلى توتير الآخرين يفعلون هذا حلا لمعاناتهم هم أنفسهم مع التوتر.
ومن أصعب حالات التوتر -التي يصادفها البشر- أن يشعر الفرد بالحاجة الملحة إلى رسم صورة معينة لنفسه أمام من يتمنى نيل رضاه؛ ولعل أبرز وأبسط مثل لهذه الحالة هو ما يفعله العاشق الذي يريد أن يقدم نفسه للحبيب في صورة ليست موجودة فيه، ومن ثم فإنه يوتر نفسه في اصطناع الصورة ثم في الحفاظ عليها، ثم في تجديد وصيانة الوسائل الكفيلة بالاستبقاء المتجدد لها.
وهو في كل تلك اللحظات يعاني من توتر مَن لا يقول الحقيقة، وتوتر من يخشى الانكشاف، وتوتر من يتحسب لمغبة انهيار الجهد الذي بذله، وتوتر من يرفض مسبقا أن يتصور النتائج التي ستنشأ عن فشل المجد (أو الزيف) الذي صنعه. ولأسباب إنسانية ضربنا المثل بالعاشق والمحبوب، مع حفظ حق الموظف وصاحب العمل في الصورة التي رسمناها.
في علوم السياسة ينضاف بُعد جديد وخطير وربما قاتل للتصرفات الناشئة عن التوتر؛ وهو بعد لا بد منه لأنه بعد خطر تفرضه وتحتمه السياسة مهما اختلفت نوازعها وممارساتها، ومثلا فإن من أبجديات الحركات السياسية السرية أنها تقتل بدم بارد من تهيئ لهم المصادفة نافذة للاطلاع على خطوة من مسار أية عملية من عمليات الظلام؛ ومن المؤسف أن هذه القاعدة غير الإنسانية أثبتت خطورتها وجدواها حين فشلت مخططات كبيرة بسبب مصادفة تافهة.
هكذا يقود التوتر إلى قتل الأبرياء من الأفراد، بل إن مسارات انتصارات أدولف هتلر وجوزيف ستالين واجتياحاتهما شهدت اقتحام دول وإبادة مجتمعات كاملة بريئة من دون ذرة ندم واحدة.
ورغم كل هذه المخاطر الناشئة عن التوتير فإن السياسة الميكيافلية تعتبره البديل الأمثل في الحروب الإستراتيجية الطويلة المدى. كما أن هناك طائفة مهمة تتوق إلى توظيف التوتير واستثماره، تتمثل أساسا في طائفة من السياسيين الطموحين إلى تحقيق نجاحات تاريخية، تفوق قدراتهم الفعلية على الفهم الإستراتيجي أو التوظيف السياسي أو الفعل العسكري.
وقد كانت تصرفات الدولتين الأساسيتين في حصار قطر نموذجا بارزا لهذا التوتير القاتل، الذي لم يَنِ عن استخدام كل ما هو متاح له من قدرة على التوتير دون أن يحقق نجاحات ملموسة أو محسوسة.
إذا لجأنا إلى التشخيص العقلى بعيدا عن تشخيص الدعاوى والسياسة فقد عانى الحصار في بدايته من سيطرة فكرة التعويل الكامل على المفاجأة؛ وهي فكرة عملية جميلة بيد أن الاعتماد عليها وحدها يمثل خطورة لا حدود لها. ومما يؤسف له أن العقل العربي المعاصر أصبح ينتظر من عنصر المفاجأة أن يحقق له المعجزات، ولهذه الظاهرة العقلية العربية المعاصرة أصل جوهري ينكره العرب في العلن ويتعشقونه في السر، ولهم الحق في كلا الأمرين.
هذا الأصل هو ما حدث من مفاجأة في صباح 6 أكتوبر/تشرين الأول 1973، حين كانت كل الحسابات المتاحة للعرب تمضي في طريق مختلف تماما عما تحقق في بضع ساعات بفضل المفاجأة؛ ولست أبالغ إذا قلت إن معظم كتب التاريخ المدرسية أعادت كتابة نفسها لتثبت للعرب الأقدمين وللعرب المسلمين قدرة سابقة على توظيف المفاجأة من أجل الحسم والحماسة ومن ثم الانتصار.
ومن خبرتي التاريخية المتواضعة؛ أقول إن أكثر من 80% من الساسة العرب ينسبون الإنجاز الذي تحقق في 6 أكتوبر/تشرين الأول إلى عنصر المفاجأة وحده، ثم يتمثلون هذه التجربة في كل ما يريدونه أن يحققوا النجاح فيه!!
في حصار قطر تبدت بوضوح ذروة لجوء التفكير العربي إلى هذا النهج من بناء الاستراتيجية، فلما فشلت (أو أُجهضت) العملية الجوهرية في صبيحة يوم الحصار أصبح المراقبون يسألون عن الخطة “باء” التي -فيما نعلم- لم تكن موجودة أصلا.
ومن ثم وصف أحد الساسة القدامى الحالة بأنها أصبحت هي الحالة “جيم”، وهو تعبير برجوازي قديم عن الحالة الحرجة يشيع في كثير من الميادين. ومن الطريف أن الأطباء يصفون به حالات المرضى الحرجة، كما يصفون به حالة موازناتهم الشخصية حين تشح الموارد في مقابل متطلبات متضاعفة.
ربما تقدم لنا العودة إلى نصوص وخبرات الإستراتيجيين العرب المنتصرين بصيص الضوء الكفيل بدخولنا إلى غرفة الفهم والبحث في كواليسها عن سر النجاح، وقد يفاجأ القارئ حين نروي له أن المشير أحمد إسماعيل -صانع نصر حرب أكتوبر، كما أسميه- أدلى بأحاديث قليلة لكنها حفلت بشذرات مضيئة، من قبيل قوله: إننا لم نحقق الانتصار بالمفاجأة وحدها.
واقع التاريخ وأوراقه المكدسة في كواليس غرفة الفهم يقودنا إلى ما هو أهم من هذا، وهو أن المفاجأة وحدها ليست ضمانا ولا ضامنا للانتصار؛ لكن أصحاب القرار بالحصار كان لهم رأي آخر، وهو أن المفاجأة كفيلة تماما بالانتصار، ومع هذا فإنه لم تتحقق أية جزئية يمكن أن تسمى بانتصار.
طال الأمد في انتظار انتصار المفاجأة، فلما لم يعد الأمر مجديا بدأ البحث عن أي انتصار يصبح هو نفسه المفاجأة! لكن الشحن المعنوي نفسه أجهض هذا الأمل كما هي العادة في الانتصارات الشمولية الجوفاء التي تستعبد الزاعمين لها والزاعقين بها أيضا، حتى يجعلهم الاستعباد -من قبل النهاية- أسرى للأكاذيب والمبالغات، وهو ما حدث مع الحاصرين على نطاق واسع.
لسان حال الدول المحاصرة يعبّر عن موقفها فيقول إنهم لا يزالون يعانون في ظل الاعتماد المبالغ فيه على عنصر إستراتيجي واحد؛ لكنهم مع هذا لا بد من أن يصمدوا لأنه لا محل من الإعراب لعودة القهقرى. بيد أنه في مقابل هذا أصبحت أية خطوة إلى الأمام بمثابة حماقة مؤكدة، فضلا عن أنها لن تضمن أي اعتراف مدلس بالأمر الواقع الذي ستخلقه أو ستخلفه.
ذلك أن إعلام “الجزيرة” الحي والمتفوق جعل تآمر الثورة المضادة -بصناعة الانقلاب العسكري في القاهرة– يستنفد إلى الأبد فكرة تلك الشرعية الزائفة التي تتحقق باستيلاء الدبابة على القصر، وبات مثل هذا النهج -مهما تغلف وتمول وتأيد- نوعا من الإثم المفضوح مسبقا، على نحو ما حدث في تركياودولتين أخريين.
وهكذا خلق التوتير زيادة فادحة في حالة التوتر التي يعاني منها من لجأ إلى توتير الآخر علاجا لتوتره هو، فإذا به يزداد توترا على توتر. وإضافة إلى هذا؛ فقد بدأ يعاني من أزمات الثقة في توجهاته وقدراته وهويته على نحو لم يتوقعه أي مراقب، وقد تمثل هذا الفشل المتحقق في خمسة محاور متعددة الآفاق:
– فبدلا من أن تكون صورته هي صورة الداعي إلى نهضة وتفوق ونمو وتقدم؛ أصبحت صورته -رغما عن مزاعمه السابقة- صورة الداعي إلى كل ما هو ثورة مضادة بما يعنيه هذا من رجعية؛ ومن العجيب أن الرجعية عند الأصوليين: جاهلية.
– وبدلا من أن يتلقى الثناء على الانتصار المفاجئ فإنه بدأ يتلقى العزاء فيما صارت إليه المفاجأة من برودة وما لم تحققه من حسم، رغم ما كان فيها من نذالة لا تُغتفر ظاهريا إلا بسطوة الأمر الواقع، ومن العجيب أن المفاجأة عند الأخلاقيين: غدر.
– وبدلا من أن تتحقق له سطوة ومهابة الكبير الذي يُلزم إخوانه الصغار بتوجهاته؛ فقد سجل التاريخ عليه التجاوز في حق روابط الدم؛ ومن العجيب أن هذا التجاوز في منطق أهل السنة: قطع رحم.
– وبدلا من أن تتحقق له قدرة على صياغة الواقع بعقله وفكره؛ فقد تصاعفت موجات الرفض لأفكاره وتوجهاته وتحالفاته، ومن العجيب أن رفض الأفكار والتوجهات عند السياسيين: هزيمة.
– وبدلا من أن يتحرك إلى الأمام -وهو ما فشل فيه- أو إلى الخلف -وهو ما لن يقدر عليه- فإنه أصبح يتحرك في المكان؛ ومن المدهش أنه في الطب المعني بسر الحياة أو عند البيولوجيين فإن التحرك في المكان هو: التوتر بذاته.
تم النشر نقلا عن موقع الجزيرة نت
ولقراءة المقال من موقع الجزيرة إضغط هنا
للعودة إلى بداية المقال إضغط هنا