من طرائف التاريخ الاقتصادي أن ألمانيا لما بدأت التصنيع كانت صناعاتها أقل بكثير من صناعات جاراتها، حتى إن القوى الصناعية في ذلك العصر استنت قانونا يلزم الألمان بأن يسجلوا على منتوجاتهم أنها صناعة ألمانية، ليكون هذا معروفا للمشتري فلا يدفع في المنتجات ذات الجودة الأقل ما يدفعه في المنتجات الجيدة، وحتى لا تسيء المستويات المتدنية من الصناعة الألمانية إلى المستويات المتاحة من الصناعات الأوروبية الأخرى.
حدث هذا بالفعل لكنه لم يستمر إلا فترة قصيرة ريثما استطاع الألمان أن يرسخوا أقدامهم في الصنعة والصناعة، وأن يصبح هذا الترسيخ أبديا وليس حقيقيا فحسب!
هل كانت هذه السياسات المعادية -بل المفرطة في العداء- لألمانيا سببا من أسباب مواجهة الألمان للتحدي، على النحو الذي جعل العالم كله يعتقد بما لا يقبل أي جدل -حتى الآن- بأن أفضل الصناعات على الإطلاق هي الصناعة الألمانية.
هناك شعور بالقدرة على التحدي يسيطر على ذهن المراقب وهو يتأمل موقف قطر في الأزمة الخليجية الأخيرة، حين فوجئت بسياسة غادرة تفرض عليها الحصار الشامل من دون إنذار؛ فإذا بالحكومة القطرية -في ثبات انفعالي واثق- تتغاضى بأنفة وكبرياء عن كل حوار جانبي، وعن كل انفعالات معتادة ومبررة في مثل هذه المفاجآت
لعل هذا الشعور الخفي هو نفسه الشعور الذي يسيطر على ذهن المراقب وهو يتأمل موقف قطر في الأزمة الخليجية الأخيرة، حين فوجئت بسياسة غادرة تفرض عليها الحصار الشامل من دون إنذار؛ فإذا بالحكومة القطرية -في ثبات انفعالي واثق- تتغاضى بأنفة وكبرياء عن كل حوار جانبي، وعن كل انفعالات معتادة ومبررة في مثل هذه المفاجآت، وإذا هي تستدعي من رصيد الحكمة والثقة بالذات ما يكفل لها أن تتخطى الساعات الأولى إلى غد أكثر إشراقا وثقة واطمئنانا.
ولا جدال في أن قطر كانت محظوظة باستثارة نعرتها الوطنية من أجل العمل على تفوّق جديد يضاف إلى تفوقاتها المتحققة على أرض الواقع، وهي التفوقات التي لم تطنطن قطر بها كثيرا حتى يومنا هذا، رغم تفردها وتفوقها في ميدان تطوير تكنولوجيا تسييل الغاز، على سبيل المثال.
بخبرتنا الواسعة بالتاريخ؛ نؤمن عن يقين بأن قطر كانت -ولا تزال- محظوظة بهذا التحدي، وربما ستكون أكثر حظا إذا قبلت باستمرار هذا التحدي أو حتى بديمومته! وهو شعور جالب للربحية المتجددة إذا ما زادت كثافة الظلم، كما أنه محقق لتغيرات نوعية إيجابية المضمون والعائد إذا طالت مدة التحدي أيضا.
لكن هذا لا يتحقق تلقائيا، وإنما يتمثل العنصر الحاسم في تحقيق مثل هذا النجاح، ويترافق مع القدرة الفائقة على تغذية عوامل شحذ الإرادة الشعبية في اتجاه أهداف عالية القيمة، والاستمرار في هذا الشحذ المرجو والمدروس حثا واستدعاء وتوكيدا؛ إذ أنه بدون هذا الحث فإن توجه الجموع الشعبية سيميل تلقائيا إلى الاسترخاء، تحت دعوى الاستقرار والحفاظ على المكتسبات، والبعد عن المغامرة أو المخاطرة بعناصر الثروة المادية والمعنوية على حد سواء.
ومن حسن حظ قطر في معركتها الحالية أن قائمة الطلبات التي نشرت عبرت بوضوح عن أن يد قطر هي الأعلى، وأن صوتها هو الأرفع، وأن نجاحها هو الأقوى.
وليس سرا أن أحد المتحدثين باسم الدول المحاصِرة سرعان ما اكتشف هذه الحقيقة الناصعة، فلجأ إلى التعبير عنها بقوله إن قطر سربت قائمة الطلبات، مع أن القائمة صدرت عن جهة المحاصرين بطريق أقرب إلى الطبيعة منه إلى التسريب.
وبالطبع فقد تم القفز على هذه القصة العابرة بسرعة، دون أن يشير المتشيعون لقطر إلى جوهر ما تعنيه من شعور بعض المحاصرين الفاهمين -ومنهم هذا الذي ادعى التسريب- بأنهم يطلبون ما يتضمن إحراجا لأنفسهم واعترافا صريحا بالتفوق القطري عليهم.
وعلى سبيل المثال؛ فإن “المتلقي” للفضائيات لاحظ بكل وضوح أن قناة الجزيرة حرصت مرة بعد أخرى على أن تكبح نجاحها المتضاعف، لتقلل من الفجوة الواسعة بينها وبين الفضائيات الشقيقة، لكن الكوادر الفنية العالية في هذه الفضائيات كانت تحس إحساسا طاغيا بأن واجبها المهني لا يتضمن الدخول بهذه الفضائيات إلى حلبة المنافسة التفصيلية مع الجزيرة.
وهو في البداية والنهاية شعور مهني مقدّر من حيث حكمته ورويته حتى إن استعصى فهمه على بعض الحزبيين أو المتحزبين.
ومن الإنصاف الذي ينبغي على العرب أن يحرصوا عليه لأنفسهم ولأوطانهم أن يحافظوا على الجزيرة بهذا المستوى المهني، وألا يطلبوا لديها من مساحات المجاملة قدرا أكبر مما رسمته التجربة بالفعل وبالأمر الواقع، حتى مع تحفظ كاتب هذه السطور على مثل هذا الاستثناء الذي قد يستمد وجوده من الحقيقة لا من الحق، ومن الحكمة لا من الحوكمة.
من الصعب على أية دولة في مجلس التعاون الخليجي أن تعتمد على تصنيع جاراتها والاستيراد منها، إذا ما كان الأمن الغذائي نفسه قد وقع تحت هذا التهديد الحاد على مثل هذا النحو المفاجئ!! وستتوجه الاستثمارات القادمة نحو تأمين الغذاء بما يسحب ويقلل حجم الاستثمارات الحيوية والإستراتيجية الأخرى
على أننا لا بد من أن ننبه إلى أن الأزمة الحالية قد ضربت آليات التكامل الاقتصادي الإقليمي في مقتل. وإذا كنا نعرف من الطب أن الجروح تترك ندبات متباينة الشكل والتركيب؛ فإننا نلاحظ بكل أسف أن الإغلاق الشامل للحدود البرية ترك ندبة مؤلمة ومعلمة.
وسيجعل ذلك من الصعب على أية دولة في مجلس التعاون الخليجي أن تعتمد على تصنيع جاراتها والاستيراد منها، إذا ما كان الأمن الغذائي نفسه قد وقع تحت هذا التهديد الحاد على مثل هذا النحو المفاجئ!! وستتوجه الاستثمارات القادمة نحو تأمين الغذاء بما يسحب ويقلل حجم الاستثمارات الحيوية والإستراتيجية الأخرى التي كانت هذه الدول قد شرعت فيها.
وقد يكون مثل هذا التحول في التخطيط الإستراتيجي للاستثمارات أمرا مفيدا من ناحية ومؤذيا من ناحية أخرى، لكن الجانب العميق له يتمثل في أنه يعزز -من دون قصد- الانتباه إلى مدى الأمان في التعامل مع الغرب، وهو الشعور الذي لا ننكر أنه مؤذٍ غاية الإيذاء لمعاني الوطنية والتعاون الاقليمي بدرجة كبيرة، لكنه كان للأسف الشديد حاضرا ومستحضرا بشدة في أوج أحاديث الأزمة (ولا نقول في أوج الأزمة نفسها).
على أن هذا كله لا ينبغي له أن يلهينا عن الحديث الأكثر أهمية، وهو الحديث عن الشعور القطري الشامخ بالعزة والاعتزاز والكبرياء، الذي وجده العرب يتجلى في كل مظهر من مظاهر السلوك القطري.
وقد جاء هذا الشعور ليستعيد لأمثالي تجاوب المتابعين والمتلقين مع الفكرة المعولة على دور أبناء الشعوب الحية في صناعة العزة والفخر، بعدما كان كثير من القراء والمتابعين قد بدؤوا يتعجبون من تعويلي المبالغ فيه على الحقيقة القائلة بأن الشعوب تعبر عن صلابة جوهرها ومتانة نسيجها من خلال أنماط الاستجابة التي تتفاعل بها مع التحديات التي تفرض نفسها عليها.
ولا يزال كثير من متابعيّ يناقشونني في وجود مثل هذه الحقيقة، في ظل ما يشهدونه -أو يظنونه- في بعض الشعوب الخاضعة لحكم العسكر، من شيوع الاستخذاء والاستكانة والتكيف مع الظلم الواقع عليهم.
من ناحية أخرى؛ كانت الأزمة الخليجية الأخيرة فرصة ذهبية منحت القطريين المخلصين والشرفاء -الذين حضروها وعايشوها- شعورا متناميا بقدرتهم على صناعة التاريخ أو تعديل مساره، أو في أقل القليل تهذيب شواطئه.
من المسلّم به في هذه الأزمة أن السلوك الواثق للحكومة القطرية ضرب -ولا يزال يضرب- أروع الأمثلة في الدلالة العملية على قيمة سياسات “الحوكمة الرشيدة”، التي لا يزال المنظرون يبحثون لها عن أمثلة ناطقة بالنجاح الفاعل
ولم يأت هذا الشعور الطاغي بالانتصار مفاجئا بحيث تصعب الاستفادة منه، وإنما جاء بعد أن عايش القطريون تجربة الأتراك المتميزة في الانتصار على كيد غربي أو أميركي مفاجئ، تمثل في محاولة الانقلاب على الديمقراطية قبل عام أو أحد عشر شهرا من محاولة حصار قطر.
وهكذا وجد القطريون أنفسهم قادرين على كسب مزيد من الاحترام لأنفسهم في الداخل والخارج على حد سواء، ويتصل بهذا ما أحسه الشعب القطري من أن حكومته لم تروَّع بمفاجأة، وأنها استدعت الحلول والخطط البديلة بالضغط على أزرار سلسة كانت قد درستها وجهزتها، وحسبت تكلفة تمويلها وسبل تعبئتها (Mobilization).
بل إن الحكومة القطرية -بقيادة أميرها الشاب المستنير- قدمت دون تشنج أكثر من حل لكل عنصر في الأزمة، بحيث باتت سياسة الحصار نفسها أقرب إلى مسرحية عديمة التأثير.
ومن المسلّم به في هذه الأزمة أن السلوك الواثق للحكومة القطرية ضرب -ولا يزال يضرب- أروع الأمثلة في الدلالة العملية على قيمة سياسات “الحوكمة الرشيدة”، التي لا يزال المنظرون يبحثون لها عن أمثلة ناطقة بالنجاح الفاعل.
وفي هذا الصدد يكفيني أن أشير إلى أن التعويل على الشفافية المطلقة قد حقق أقصى نجاحاته في ممارسة السلطات القطرية وتعاملاتها مع الأزمة يوما بيوم، وقُل مثل هذا فيما يتعلق بسياسات الإفصاح والرقابة والترخيص والتمويل وحقوق السحب، وضوابط الاستيراد واختبارات الصلاحية وسلامة الغذاء والدواء.
بل إن الأزمة الخليجية أثبتت للحكومة القطرية نجاحا مذهلا في تضافر السياسة والاقتصاد والإدارة، من أجل تحقيق نجاحات غير مسبوقة في إدارة الأزمة واستدعاء المجد.
——————————————
تم النشر نقلا عن موقع الجزيرة نت
ولقراءة المقال من موقع الجزيرة إضغط هنا
للعودة إلى بداية المقال إضغط هنا