تحتفظ الذاكرة العربية -منذ الزلزال الذي هز مصر في 1992-بمصطلح التوابع للدلالة على الزلازل الصغيرة التي تعقب الزلزال الكبير، سواء نظرنا إليها على أنها من معقباته أو آثاره أو تبنينا وجهة النظر باستقلالها عنه، وفي الحالين فإن وحدة المركز أو تعدده هو ما يهم الباحثين والجيولوجيين.
وفي أيامنا الأخيرة أو الراهنة فإن فهم بعض “التوابع” السياسية (أو بعبارة أدق وأرصن: المتتابعات أو المتواليات) يتطلب تأملا أعمق للنسق الذهني المنشئ للتفكير السياسي، في أحوال صحته ومرضه على حد سواء.
وسنلجأ -في هذا المقال- إلى نمط من التجريد البسيط لطبيعة الأنساق الفكرية (في محاولة نعتمد فيها على استحضار مشاركة القارئ بحواسه المستوعبة للأحداث)، مستعرضين تصوراتنا لطبيعة التداعيات الحرة في السياسات غير التقليدية، أو السياسات الخارجة عن النمط المألوف ودور الحوافز الواقعية والسيكولوجية في صنعها.
ونبدأ بالقول بأنه في غياب القدرة على التحليل المنطقي لأي تطور سياسي (أو غير سياسي)؛ فإنه تبزغ الحاجة إلى إيجاد منظومة (مركبة أو بسيطة) من الوقائع القابلة للتصديق أو التمرير أو الابتلاع.
وهنا تبرز المساحة الواسعة التي يمنحها العقل البشري بلا مقابل لفكرة المؤامرة، حين يميل هذا العقل مضطرا (أو راغبا) للقبول بما يمكن أن يحل له ظواهر التناقض في المرئيات والمحسوسات، معتمدا على روابط قد تكون أعمق في موضوعيتها من “الظاهر” أو أقوى في صدقيتها من “المتاح”.
وقد علمتنا التجارب التاريخية أن العقل البشري يكاد -مهما كان حرصه على التعقل والتسبيب- أن يمتنّ بشدة لفكرة المؤامرة وكل فكرة أو نظرية شبيهة بها، بسبب قدرة مثل هذه الفكرة على حل كثير من المعضلات، ونقلها أو تحويلها من سياق المعضلات إلى تيار المفهومات.
ومن حسن حظ البشرية أن اللجوء إلى فكرة المؤامرة من أجل التفسير لا يقتضي ولا يتطلب كثيرا من الإجراءات ولا المقدمات، حتى إنه ليمكن للإنسان -البسيط في قدراته ومشكلاته وتصوراته- أن يعتمد من آن لآخر على اللجوء لهذه الفكرة في تبرير بعض إخفاقاته أوفي تلطيف إحساسه بإحباطاته. فما بالنا بالكيانات السياسية المعقدة التركيب بما فيها الدول والأحزاب والكيانات المجتمعية.
ومن الإنصاف للفكر البشري ومخرجاته أن ننتبه إلى أن آلية فكرة المؤامرة تختلف تماما عن آلية استدعاء الميتافيزيقيات، ذلك أن نظرية المؤامرة تضرب بجذور واضحة في الوجود الحادث (أو المحدث بالفعل) والتفسير المادي للتاريخ على حد سواء.
بيد أن سلامة إستراتيجية أية مؤسسة -وخاصة مؤسسة الدولة (بمفهومها الحديث)- يقتضي الانتباه السريع إلى حقيقة خطرة وخفية، وهي أن الدور الذي تؤديه نظرية المؤامرة ينبغي أن يخضع للمراجعة والتقليب والتقييم من آن لآخر، قبل أن تترسخ بناء عليه معطيات غير حقيقية (أو غير عملية) تقود إلى توجهات شبه دائمة، وتنتقص بالتالي من الأسس الفكرية والعقائدية والتاريخية التي تستند إليها بنية المجتمع القائم، أيا ما كان هذا المجتمع.
ولا شك في أن مثل هذا الانتقاص كفيل بأن ينقض البناء المجتمعي وأن يكون هذا النقض عاجلا. ومن أجل تجنب مثل هذه النتيجة فإن الخبرة الإنسانية بالتاريخ أرست ما ألخصه كثيرا في قولي إن النقد هو أقوى صمام ضد النقض، وإن النقد الذاتي هو أقوى صمام ضد النقض الذاتي، وإن توظيف الآخرين في النقد هو على كل حال أهون من توظيفهم في النقض.
على أن الفكر التشريحي الظاهري (المعتمد على العين المجردة وليس على التشريح النسيجي) ينبئنا أنه من الطبيعي أن تتقاطع مسارات نظرية المؤامرة مع ثنائيات تقليدية كالخير والشر، والسلبية والإيجابية، والولاء والبراء، والتأييد والمعارضة، واليمين واليسار.
ومن الطبيعي كذلك أن تنشأ عن بعض من هذه التقاطعات -من دون تحديد ولا توقيت- عناصر معززة لمضمون فكرة المؤامرة وصدقيتها، وقدرتها على التفسير وتقديم الحلول، لكن المكانة المرموقة للعقل الناضج تكفل له أن يمارس -في الوقت ذاته- سيطرته القصوى على حدود اللجوء والتوظيف لأية فكرة من أفكار هذا النمط الجذاب.
أما التشريح النسيجي للنصوص والفعاليات والبروتوكولات والانفعالات والاتفاقات؛ فإنه -مع صعوبته- كفيل بالكشف حتى عن العُقد النفسية الحاكمة لكثير من التصرفات المستغربة، ولبعض التوجهات التي لا يقرها عقل ولا دين.
وعلى صعيد آخر؛ يرتبط هذا الحفاظ على المكانة المرموقة للعقل السياسي بالحاجة الدائبة إلى تجديد مخزونه المعرفي والمعلوماتي، وترقية قدراته على الاستقراء والاستنتاج والاستنباط والاستدلال، وصولا إلى الاختراق المتشعب لكل خلية من خلايا المواقف الطارئة.
ويرتبط هذا الارتقاء الدائب بالعقل السياسي بعنصر آخر يعتمد على العقل الجمعي في تنمية طاقته القادرة على أن تنظم العلائق بين هذه التقاطعات تنظيما منتجا وليس مثمرا فحسب، أي أن تكون ثمرات التفكير السياسي ذات كمية محسوسة وليست ثمارا فرادى على سبيل الرمز.
وإلا فبوسع نظرية كنظرية المؤامرة أن تصبح بديلا للمسارات الطبيعية، وأن تكون هي الأساس الجوهري للسياسات الإقليمية والدولية على حد سواء، وهو تطور شاذ وخطر، وكفيل بأن ينهي تماما فكرة الخصوبة السياسية في العلاقات الدولية، وهي الفكرة التي بنهايتها تندلع الحروب الحمقاء مباشرة.
وليس من شك في أنه قد حدث لتداعيات جولة الرئيس الأميركي دونالد ترمب شيء كثير من هذا القبيل المتأثر بنظرية المؤامرة، وقد تجلى هذا عبر الإفراط البالغ في الاعتماد على تفسير الأحداث بنظريات المسارات المنفردة، وهو الإفراط الذي حذرنا لتونا من أثره المستدعي للحرب بناء على قضائه أو إنهائه لفكرة الخصوبة السياسية في العلاقات الدولية.
ذلك أن التداعيات العربية لأولى جولات الرئيس الأميركي الجديد بدت جامعة بين صفتين نادرا ما تجتمعان بسهولة؛ فقد بدت هذه التداعيات معدة سلفا وواعدة بنتائجها اللحظية المنطقية، وفي الوقت ذاته صُوّرت هذه التداعيات على أنها نصر خاطف وباهر لم يكن متوقعا في الأحلام. ومن ثم بدت هذه النتائج في صورة عبقرية!!
وتمثل المعضل الفكري فيما بُذل ويُبذل من أجل تغليب أي من هاتين الرؤيتين على نقيضتها الأخرى، وهو ما عبر عن نفسه في الحاجة الملحة إلى فعل على الأرض ينتصر للرؤية المراد تغليبها؛ وأصبح القول بعبقرية الترتيب للزيارة يقتضي صعودا موازيا للاستحقاقات التي فرضتها ضرورة إنجاحها مهما كلف الأمر.
وهكذا وجد الواقع السياسي العربي نفسه أمام خيار لم يُصادف ولم يُواجه من قبل فيما يتعلق بطبيعة علاقاته مع أميركا، وتعدى الأمر بسرعة الحدود التي كانت قد وصلت إليها أقصى درجات التعاون العربي الأميركي، الذي تحقق على الأرض في حرب استرداد الكويت إلى حدود لم تتضح معالمها بعد.
ومرة أخرى؛ فقد أصبح مطلوبا من العقل العربي أن يسلّم بأنه من الحق الذي لا يمكن إنكاره أن هذه القمة العربية/الأميركية بدت قادرة على أن تستوعب بعض التطلعات الإقليمية على نحو نادر، يفوق بكل تأكيد قدرة مثل هذه الزيارة على صناعة التحولات، وهو الأمر الذي أصبح -كما ألمحنا- بحاجة إلى دليل عملي يؤكده في أرض الواقع.
ولما كانت الحياة قد علمت أصحاب الدعاوى من البشر أن يلجؤوا إلى أسهل وسائل الإثبات وأسرعها وأقلها كلفة؛ فإن البحث عن دليل على النجاح سرعان ما أصبح يمثل ضرورة شديدة الإلحاح لكثير من أطراف التعاون، الذي نال في الظاهر دفعة كبيرة وبقي أن يثبت لها أثرا ماديا ملموسا.
ومن الطبيعي أن أي نجاح في الجبهات المفتوحة العديدة سيعزز فرص تكرار النجاح في الجبهات الأخرى، لكن المعضلة الحادة والقاتلة التي باتت تواجه العرب أصبحت تتمثل في أن النجاح الدعائي -أو المتقن التصوير والتشكيل والعزف- أصبح يمثل بديلا أخف مؤونة وأسرع أثرا.
مع أن ثمن هذا البديل باهظ على نحو قريب مما عرفته الأمة العربية نفسها منذ خمسين عاما بالتمام والكمال، في صراع أحمق بين جبهتين كانتا كلتاهما تدعيان خطا تقدميا واحدا، فإذا بهما تصطرعان وتجلبان لهما معاً هزيمة ماحقة وليست ساحقة فحسب.
تم النشر نقلا عن موقع الجزيرة نت
ولقراءة المقال من موقع الجزيرة إضغط هنا
للعودة إلى بداية المقال إضغط هنا