كان أبرز ما كرسته الفترة الثانية من رئاسة أوباما في مجريات السياسة العالمية هو بروز مبدأ عدم المسؤولية، وهو مبدأ براغماتي يميل إلى إيثار السلبية بادعاء الاستناد إلى مبادئ الحياد وعدم التدخل، ثم البناء على هذه المبادئ في تسويغ تجنب إصدار القرارات ذات التكلفة والهروب الانتقائي من الاطلاع بالمسئولية الإنسانية، على نحو ما يحدث في استنكاف القيام بضريبة القدرة على نصرة المظلوم.
وقد حاولت الإدارة الأميركية من خلال الحوارات الجانبية أن تقنع الرسميين والشعبيين بأن لها الحق المطلق في أن تستثمر ديناميات هذا المبدأ، بيد أن كثيرين لم يتقبلوا رغبتها، وكثيرين آخرين لم يصدقوا دعاواها، وأذكر أنني قلت لأحد الأصدقاء الأميركيين من أصل مصري إن هذا “الترفع” ليس من حق الإدارة الأميركية لأنها كانت قد اضطلعت بالدور الأكبر في بناء المنظومة الدولية الحالية المتمثلة في هيئة الأمم المتحدة في ١٩٤٥بناء على التزام جوهري منها بحماية حقوق الانسان ومنها حقه في منع الخوف، فتوقف الصديق عن المناقشة حتى يراجع وثائقهم متفرغا لها طيلة يومين.
عاد صديقي الأميركي ليقول: لكننا نحن الأميركيين المحدثين أصبحنا وكأننا لا نعرف ذلك الماضي! ونقول لأنفسنا إننا بنينا قوتنا العسكرية والإستراتيجية لنستفيد منها في الأساس لا لننصر بها المظلومين من الظالم! وأسرع كعادته بتطبيق رؤيته على ما يحدث في مصر قائلا لنفسه بصوت عال: هل أجهدنا أنفسنا كأميركيين -واحتلنا حتى على الأخلاق- في تكوين الثروة ثم القوة لنأتي إلى لحظة ندفع فيها من ثروتنا لننصر “بمبدأ الأخلاق” شعبا ما على من يغتصب السلطة ويسئ استخدامها، ويدفع لنا مقابل السكوت عنه عيانا وعينا؟؟
أحببت أن أذكر هذا المثل السابق مباشرة لأدلل به على نوعية المقاربات الفكرية التي جعلت قانونيا مبرزا ونابها من طبقة الرئيس أوباما نفسه يفكر في اللجوءإلى مبدأ عدم المسؤولية، ومن الجدير بالذكر أن الرئيس أوباما أصغر في السن من محاوري الأميركي الذي كان واضحا وصريحا في تعبيره عن فهمه للواقع والدوافع.
في كل الأحوال فقد رسخت السنوات الأربع الماضية وجود هذا المبدأ على هذا النطاق العالي -ولا نقول الواسع- وأعطته جاذبية تبتعد بصاحبه رويدا رويدا عن صفة الوغد وتقترب به على استحياء من منطقة المعقولية الانتهازية.
ثم جاءت الأيام الأولى من حقبة ترمب بأسوأ تطور محتمل تمضي إليه تجليات مبدأ اللامسؤمولية حين تتحول سياستها ومعطياتها إلى فعل إيجابي لا مسؤول، لكنه متعجل سياسيا لتدمير الحاضر والمستقبل بقدر ما هو متوجه اجتماعيا إلى تشويه العلائق والحقائق على حد سواء.
وليس هناك وصف أكثر دبلوماسية من هذا الوصف المختصر لطبيعة موقف ترمب غيرالمسؤول تجاه الفكرتين الإنسانية والأميركية على حد سواء.
ومع أن مبدأ “اللامسؤولية” (في صورتيه السلبية والإيجابية) قد يبدو مفيدا لأصحابه في المدى القصير فإنه سرعان ما يشي لهم بكل وضوح بفداحة الخطورة في تبنيهم له، حتى إن كان هذا التبني مرحليا، وهي أنه يسلب “الزعامة” حتى في القريب العاجل (وأحيانا أخرى في الوقت الراهن نفسه) ما تتيحه لها في العادة عوامل كثيرة من سمات القوة الطبيعية الكفيلة بأن تتحقق لما يعرف في الفيزيقيا على أنه طاقة الوضع المتحققة أو المتولدة ذاتيا بالمكانة المحفوظة في الذات وهي مجموعة قوى -وليست قوة واحدة- قادرة على التعبير الصريح عن الردع والمهابة.
وعلى سبيل المثال فإن التفكير البشري الطبيعي يجعل الإنسان يخشى من سقوط الحجر العالي ذي الوضعية القلقة؛ ويتوقع العامة فيما يكاد يصل إلى اليقين أن تزداد المخاطر الناشئة عن سقوط الحجر كلما ازدادت كتلة هذا الحجر، وكلما ازداد ارتفاعه، وكلما ازدادت حدة زاوية سقوطه، وكلما كانت أطرافه (المدببة مثلا) قادرة على الإيذاء والتدمير، وكلما كانت مادته قابلة للتشظي والتناثر والتجريح والتفجير.. وقد يكون بعض هذه التوقعات صائبا فيزيقيا وقد يكون بعضها الآخر صائبا فلسفيا فحسب وقد يجمع بعضها بين الصوابين.
ويختصر العلماء والفيزيقيون تسمية هذه العوامل المحتملة التأثير بطاقتها الكامنة فيها بما يعبرون عنه اصطلاحا بطاقة الوضع.
فإذا حدث في مؤسسة علمية أو مركز بحوث أن ترك الباحثون أو مديرو المعمل كتلة ما بكل مكنوناتها في وضع حرج فقد ارتكبوا ما نسميه في السياسة بـ”اللامسئولية”، و عرضوا ما هم مسئولون عنه من كيانات إنسانية وغير إنسانية إلى المخاطر الناشئة عن اللا مسئولية على الرغم مما قد يبدو من أنهم وفروا نفقات المسئولية وتبعاتها.
ومن الحق أن نعترف أن أوباما لم يكن في اختياره لهذا البديل صادرا عن نية مبيتة لاستخدامه على نحو ما استخدمه بفظاعة لكنه (بعقله الإستراتيجي الحاد) وجد بعد تجربة وتبصر أن الأنسب له ولأميركا أن يلجأ إلى هذا البديل الذي بدا له أقل كلفة وأسلم عاقبة.
وقد كانت هناك ثلاثة عوامل عميقة الأثر والتأثير حكمت تقديرات أوباما للموقف الأميركي من السياسات التي رأى أن من الأنسب لها أن تنتهج إدارته الأولويات اللا مسئولة التي اختارها لها:
– كان العامل الأول يتمثل في ارتفاع كلفة الأقساط المتبقية من سياسات سلفه جورج بوش في أفغانستان والعراق، وهو موضوع يطول شرحه لكن أرقامه مفزعة، و”تورطاته” لا تزال طويلة المدى.
– أما العامل الثاني فتمثل في إجادة خصومه تكرار اللجوء -العلني والخافت- إلى اللعبة السخيفة التي تكرر معايرته غير الأخلاقية بسواد بشرته وأجنبية أصله وإرهاب دين أبيه الذي من المفترض أنه ولد عليه وحافظ على أصوله بحكم أن زوج أمه الذي رباه في طفولته كان هو الآخر مسلما.
– أما العامل الثالث وهو الأهم من بين هذه العوامل الثلاثة فقد كان من صنع أوباما نفسه بحيويته وشبابه ورغبته في ممارسة الألعاب السياسية وفي إدارة الأعمال اليومية وفي الدخول إلى التفاصيل والتلافيف، وقد ساعدته هذه الصفات أو فلنقل دفعته إلى أن يشترك بنفسه في صناعة مؤامرات أميركية متعددة التوجهات، ومع أن تاريخ أميركا في حب وحبك المؤامرات طويل ومتصل فإن مؤامرات عهد أوباما تميزت عن مؤامرات أسلافه بظهور قدر أكبر من تورط الرئيس فيها -ولو بلمحة في خطاب عابر- وقد ساعدت وسائل التواصل المجتمعي في إنعاش هذا الطابع الكاشف، كما أجج التكرار من الإحساس بزيادة حجم تدخل الرئيس الأميركي فيما لا يوصف ولا يستقبل إلا على أنه تآمر.
ولما كانت قوانين الحركة السياسية تحتم أن يكون لكل فعل رد فعل فقد كانت كثرة الفشل والانكشاف في تداخلات أوباما مدعاة للجوئه هو والسياسة الخارجية الأميركية في فترة رئاسته الثانية إلى الأخذ بخيار اللامسئولية بعدما أثبتت الظروف فشل سياسة تكثيف التداخل المباشر.
ومن الغريب أن سياسة أوباما بتناقضها المنطقي ونفعيتها الاقتصادية وجدليتها القيمية امتدت بظلالها لتخلق مشكلات حادة مع من كان كل أساتذة العلوم السياسية وخبرائها يظنونهم الحلفاء الطبيعيين بل التلقائيين لتوجهات أوباما، يستوي في هذا بنيامين نتنياهو، و فلاديمير بوتين، ومحمد مرسي، ورئيس الصين، و رئيس الفلبين وأخيرا وهو الأهم رجب طيب أردوغان الذي صنف في بداية إعجاب أوباما به على أنه ملهمه الأثير، فاذا بأوباما في عامه الأخير، يكشف عن عمد وقصد بعض أوراقه في إطار ما عرفناه -فيما بعد- من أنه كان نوعا من التجهيز بصوت عال للانقلاب العسكري التركي الفاشل.
تاريخ النشر : 11/2/2017
تم النشر نقلا عن موقع الجزيرة نت
ولقراءة المقال على موقع الجزيرة.نت اضغط هنا
للعودة إلى بداية المقال إضغط هنا