لا شك في أن فوز ترمب كان مفاجأة غير متوقعة للأغلبية التي تابعت أداءه بشغف منذ أعلن نزوله إلى حلبة الانتخابات، وحتى وصل إلى المناظرات النهائية التي أظهرته أقل كفاءة وأقل توافقا مع متطلبات منصب بهذه الخطورة.
ومع أن هذه الأغلبية كانت -من باب الأخذ بالاحتياط- تتحسب للاحتمال القائل بإمكان فوزه بحكم ميل الأميركيين لغير المألوف وللمغامرة وللتجديد؛ فقد كانت الحسابات تؤكد لأصحابها ضعف هذا الاحتمال بسبب ما عهدته السنوات الأخيرة في التوجهات الشعبية الأميركية من حكمة جمهورهم وحنكتهم المتنامية في تأجيل الصدام، وتلوين الخلاف، وتجنب الحماس، وضبط الإيقاع.وهي “حنكة شعبية “يقدرها حلفاء الأميركيين بأكثر مما يفخر بها الأميركيون أنفسهم.
لكن هذه المقومات الجوهرية في السياسة الانتخابية الأميركية تبخرت في ليلة باردة من ليالي نوفمبر/تشرين الثاني الخريفية، وإذا بجماهير المتابعين بعد منتصف الليل الأميركي تواجه واقعا جديدا كان هو نفسه أول ما واجه أبناء الشرق الأوسط والقارة العجوز وهم -بحكم فروق التوقيت- يستقبلون في ذات الوقت تباشير وإشراق أو تجهمات وغيوم صباح اليوم التالي للانتخابات.
تعددت التحليلات المستفيضة والوافية لما يمكن أن يترتب على وجود ترمب وأسرته وعصبته وشخصيته وعقليته وخبراته وحساباته، لكنها في رأيي المتواضع لم تتوجه بالقدر المناسب إلى الشق الإيجابي الذي لا يزال من الممكن أن ينشأ عن وجود شخصية بهذه الدرجات الكبيرة من الاختلاف القيمي والانفعالي في مثل هذا الموقع
ومن الإنصاف أن أقول بل وأعترف بصواب كل الذين تحسبوا ولا يزالون متحسبين من هذا التغير الحاد والمفاجئ في زمن حساس وذلك على الرغم من اختلافي التام معهم؛ فلا شك في أن الرأي العام محق في أن يقتنع بلا عناء بأن أسانيدهم أقوى من رأيي؛ وسيعود ذلك ضمن ما سيعود إلى الحقيقة القائلة بأن ترمب نفسه -وفريقه معه- يكادون يؤيدون كل وجهات النظر تلك بتصرفاتهم المبكرة المعبرة بوضوح عن صدق التقديرات المتحسبة من الرئيس ترمب وفريقه.
لكني مع هذا ما أزال ميالا إلى القول بأن المعطيات المرتبطة بتعامل الرئيس المنتخب نفسه مع مواقفه السابقة باتت تصب في مصلحة العرب والمسلمين بل وربما تساعد الإستراتيجيات العربية البازغة بعدما عانت في السنوات الأخيرة من وطأة التقلصات الأميركية والانتهاكات الروسية.
وسأتناول بعض الأمثلة الرمزية التي أدلل بها على أن العوامل الحاكمة في الجانب الباطن للرؤية ربما تكون أقوى بكثير من الدلائل القاطعة في جانبها الظاهر.
وعلى سبيل المثال أولا فإن ترمب يبدو وكأنه لا يعرف أوربا الغربية ولا الشرقية على نحو كاف، ومن ثم فإنه لا يعرف العالم القديم ونحن في قلبه، لكن هذا الرئيس -خلافا لكل أسلافه- يعيش في الواقع تحت سقف واحد مع زوجته (ولدت في ١٩٧٠) التي نشأت وتربت في دولة صغيرة “جديدة ” هي سلوفينيا التي كانت حتى تفكك الاتحاد اليوغسلافي ذائبة تماما في نظام يمكن وصفه باختصار بأنه نظام شيوعي معدل ذاتيا وموضعيا على يد دكتاتور محنك هو جوزيف بروز تيتو؛ ليس هذا فحسب بل إن ترمب في مطالع حياته الزوجية منذ ١٩٧٧ تشارك الحياة في تجربة زواجه الأولى مع سيدة منتمية تماما لأصلها التشيكي بكل ماضيه بما في ذلك الفترة التي انضمت فيها دولة التشيك إلى جارتها سلوفاكيا تحت اسم دولة تشيكوسلوفاكيا التي ربما كانت في الحقيقة بمثابة الدرة الثانية -بعد ألمانيا الشرقية- في الحلف (أو المعسكر) النقيض للناتو والذي سمي بحلف وارسو.
هكذا فإن ترمب الذي يبدو معاديا تماما للأجانب والهجرة واللجوء والتجنس والتطعيم ليس إلا واحدا من الذين عاشروا المشكلة بتوسع، وعاشوها بعمق، وأرادوا لها حلا على مستوى ممول أو معالج اقتصاديا لا على المستوى المدفوع أو المطلوب إنسانيا فحسب.
ومن حسن حظ الإنسانية أن هذا النموذج البشري ليس عصيا عليه أن يكتسب الفهم الإيجابي المتقدم للحلول والعلاج والاستيعاب الاجتماعي والسياسي والتحول الفكري؛ فهو نموذج أفضل بكثير من نموذج شائع جذاب قد يمارس -بمهارة ظاهرة- سياسات من قبيل ذر الرماد في العيون؛ تمارس العمل على مستويين مختلفين في حقوق المواطنة.. الخ.
وعلى صعيد ثان متصل بالأول وإن كان أكثر تعقيدا وتنفيرا فإن دونالد ترمب في خطابه السياسي بدا وكأنه يستسهل عداء الإسلام والمسلمين، وبدا أنه يفعل هذا بطريقة أوتوماتيكية بحتة؛ بل إنه بدا وكأنه يصل بهذا الاستسهال إلى حدود منفلتة تماما في تصريحاته وتعقيباته على حد سواء، وهي للأمانة في الطرح حدود غير مسبوقة، لكن هذا لا ينفي أن هذا النمط من العداء يندرج تحت خانة العداء الملقن لا العداء المكتسب ولا العداء المجتذب.
ومع أن عداء من هذا النوع يبدو مفرطا في عمقه وتعبيره بلا سبب فإنه سرعان ما يفقد إفراطه بل ربما ينفرط تماما؛ ويفرط فيه صاحبه سريعا؛ ولست أحب أن أكون حالما بلا مرجعية، ولا متفائلا بلا منطقية؛ لكن المتأمل في كل دعاوى ترمب ضد الإسلام يدرك بكل وضوح أنها دعاوى مستسهلة من أجل تجاوز أو حل المعضلات الأخرى؛ وليس أسرع من تبخر مثل هذه الدعاوى بمجرد أن يلجأ المسئول أو صاحب القرار لمواجهة المشكلة؛ والأمر في هذا شبيه بجهاز معطل تحت دعوى افتقاده لسلامة وحدة معالجة القوى الكهربية power supply فإذا حرك المسئول مقبس الجهاز نفسه إلى مصدر آخر للطاقة فإنه (الجهاز) سرعان ما يعمل بكفاءته المطلقة؛ وعندئذ تنتهي صدقية “التشخيص القديم” الذي كان مستسهلا تماما؛ بل ستترافق مع نهاية هذه التشخيصة الكاذبة الجاذبة مجموعة من اللعنات التي تصب على من صاغوها وعلى من استناموا لها.
وقد علمتنا التجارب التاريخية أن معظم الساسة البراغماتيين المندفعين ضد الإسلام بحكم ما تلقنوه وبحكم سرعة التيار هم أول من يستفيقون إلى ما كانوا يقعون فيه من خطأ عدواني يؤذيهم هم أنفسهم قبل أن يؤذي أحدا من المسلمين.
ومن حسن الحظ أيضأ أن وسائل الاتصال الحقيقي قد أمّنت طرقا لا نهاية لها لوصول أمثال ترمب وفريقه إلى الحقيقة، ووصولها إليه؛ فضلا عن أن التجارب الحديثة تدلنا على أن طائفة معينة ومحدودة الأفق والعدد من المسلمين هم الذين يسعون في تأجيج العداء للإسلاميين الملتزمين؛ ومن ثم فإن منطقهم في التشويه يبقى في حدود النفاق الذي يصعب عليه تحويل المواقف الجوهرية بفضل افتقاده المؤكد لمكونات خاصيتي “المصداقية” و”الصدقية” في خطابيه المعلن والخفي على حد سواء
على صعيد ثالث فإن موقف ترمب من الأمل في تسجيل النجاح الإستراتيجي لا يعاني من اضطراريات ملحة وإلحاحيات حادة كما كان الحال فيما انتهت إليه الإستراتيجيات الأميركية على يد ثنائي أوباما وكيري؛ ولعل أبلغ مثل دال على هذا هو تصريحات ترمب عن إيران، وتصريحات مسئوليها عن توجهاته؛ ذلك أن ترمب بحاسة رجل الأعمال أقنع نفسه بأنه سيتقاضى من أعداء إيران التقليديين مقابل حماية، ومن ثم فإنه ليس بحاجة إلى الالتفاف نحو ابتزازهم بإيران وتدعيم قوتها الصاعدة عل نحو ما فعل أوباما من تقارب غير مبرر! (أثار منذ شهور نقد ترمب وأعطاه المبرر لمواصلة العمل في ملف استثماري واعد)؛ وهكذا فإن مقاربة ترمب للصراع العربي الفارسي لقيت من العرب ارتياحا نفسيا لم يعبروا عنه بعد بما فيه الكفاية، وكان لهم العذر في ذلك حتى لا يتورطوا في الفكرة الترابية بكل ما يبدو فيها من تناقضات.
وفيما يبدو لي بكل وضوح فإن الأفق السياسي المتخوف منه لدور الولايات المتحدة الأميركية في الشرق الأوسط في مخيلة وفلسفة فريق ترمب “العقلي” سيتجاوز التمهيد لفكرة العمل على تفريغ المنطقة من أهل السنة إلى التهديد بإفراغها أيضا من أهل الشيعة ومن المسيحية الشرقية بكل طوائفها؛ وهو ليس تفريغا ديموجرافيا بتهجير السكان -كما حدث في عهد أوباما- ولكنه تفريغ عقلي يستلزم ويستتبع تفريغ عقول الشرق أوسطيين من عقائدهم؛ وهي فكرة تبدو خيالية لكنها في العقل الأميركي الباطن تمثل الفكرة التي خلبت ألباب عتاة الأكاديميين الأميركيين الذين أصبحوا وكأنهم يريدون أن يختصوا أنفسهم بأنهم أكثر البشر علاقة بصحيح الدين (!!) من خلال وسيلة واحدة فاعلة وهي إبادة معتقدات الديانات القديمة على نحو ما فعلوا ويفعلون في النظريات العلمية المتصلة بعلوم النفس والإنسانيات ليبدؤوا تاريخا علميا جديدا يبدأ بما بدأت به المدارس العلمية الأميركية؛ ومن العجيب أن اليهود يتظاهرون بمجاراة الأميركيين في هذا النهج إلى أن يحدث ما هو متوقع من افتراق مفصلي في لحظات غير متوقعة.
وفي هذا الصدد فمن حق العرب أن يتفاءلوا بقدرة دينهم على صمود مذهل في مواجهة مثل هذه الأطروحات.
على صعيد رابع فإن مفهوم النجاح عند ترمب يختلف تماما عن مفاهيم النجاح الرئاسية الأميركية منذ اندلعت الحرب العالمية الثانية؛ فعقل ترمب كما نقرؤه من تصرفاته قبل خطابه لا يسعى لفوز أميركا فيما تمارس وإنما هو يسعى لحيازة أميركا للفوز “مشيئا” أي على هيئة شيء متجسد؛ وهكذا فإننا لا نستبعد من ترمب أن يطلب من اليونان أو إندونيسيا أو الفلبين أو حتى من اليابان شراء جزيرة مهجورة أو شبه مهجورة من الجزر العديدة التي تتكون منها هذه الدول ليتولى هو تعميرها بقاعدة أميركية عسكرية تحت الأرض وبمنتجعات سياحية أميركية فوق الأرض؛ وليبلور مالم يتبلور لأميركا من قبل من مستعمرات ما وراء البحار.
وهنا يحق لنا أن نتفاءل حيث نستطيع القول إن الممارسات الأميركية الاستعلائية الجارحة للسيادة في المنطقة العربية ستتراجع بكل ما يعنيه هذا التراجع من تحويل العنف السياسي إلى رياضة سياسية ذات قواعد ربما تعاني من الغش في بادئ الأمر لكن الغش الذي ستحتويه سوف يتضاءل مع الزمن بحكم انتشار العلم.
وخلاصة القول في هذه الجزئية هو أنني أتصور فريق ترمب الرئاسي شبيها بذلك الإنسان الآلي أو الروبوتي الذي كان مشغله يتصور أن وظيفة الأذنين هي حمل ذراعي النظارة الطبية دون أن يعرف أن حاسة السمع أهم للإنسان من حاسة البصر التي طلبت المساعدة من النظارة الطبية؛ ذلك أن الولايات المتحدة أكبر بكثير من أن تكون هي الشركة الأميركية العظيمة.
تاريخ النشر : 26/11/2016
تم النشر نقلا عن موقع الجزيرة نت
ولقراءة المقال على موقع الجزيرة.نت اضغط هنا
للعودة إلى بداية التدوينة إضغط هنا