ربما لا يختلف اثنان على حقيقة مهمة ومؤلمة في الوقت ذاته وهي أن كثيرا من الكتابات التي كان يمكن أن تخدم الفكر السياسي الإسلامي أصبحت موجهة للنيل من هذا الفكر نفسه.
ومع أن الفكرة الإسلامية في حد ذاتها أقوى من أن تتأثر ببضع كتابات هنا وهناك، فمن المؤكد أن هذه الكتابات المتناثرة قد أثرت بطريقة غير مباشرة في طرح قضايا الفكر الإسلامي في الفترة الماضية.
– فقد استهلكت هذه الكتابات جهود المفكرين الإسلاميين في الرد عليها.. وقد استنفد هذا الغرض جهد كثير من المفكرين الإسلاميين الذين كان في مقدورهم أن يقدموا -تبعا لقاعدة الفرصة البديلة- جوانب مشرقة للإسلام وحضارته.
– ومن ناحية أخرى منحت هذه الكتابات بعض الصكوك التي يبحث عنها بعض القناصة من الأكاديميين الغربيين الذين يجيدون التقاط ما هو كفيل بتصوير الحقائق على أنها خلاف.
– ومن ناحية ثالثة فإن بعض الردود غير الذكية وغير المسؤولة التي قدمها بعض المنتمين إلى تيارات الفكر الإسلامي قد آذت صورة هذا الفكر بطبيعة الحال.
وحين أتيح لبعض هذه الآراء التداول على مستوى جماهيري في ظروف معينة فإنها تركت آثارا سيئة في ذاكرة كثير من البسطاء والوسطاء الذين لا يتمتعون بالقدرة على التمييز كما في حالة “البسطاء”، أو بالوقت الكافي لبذل الجهد للوصول إلى الحقيقة كما في حالة بعض “الوسطاء”.. ومن ثم كانت النتيجة أن قضايا الفكر الإسلامي أصيبت بلا جدال ببعض التشويه الذي يتطلب في بعض الأحيان بعض الجهد للعودة به حتى إلى نقطة الصفر الأولي.
ومن منطق الحديث بلغة الغرب السائدة فإن الواقع يقتضي منا أن ننبه إلى حقيقة أخرى وهي أن آفاق الحديث عن أهمية قبول الآخر في الحضارة المعاصرة (بمعنى محدد هو الإسلام) قد ازدهرت بصفة خاصة بعد وقوع أحداث 11 سبتمبر، مع أن الإسلام نفسه كان سباقا إلى إرساء الأسس الكفيلة بقبول الآخر، ونحن جميعا نعرف أن نصوص القرآن الكريم تحفل بالتنبيه على أهمية التنوع بين طبائع الناس وانتماءاتهم ومصالحهم، كما تحفل بالإشارة إلى الحكم الإلهية العديدة من هذا التنوع، وإلى إرادته ـسبحانه وتعالى ــ أن تكون الإنسانية على هذا النحو، ويكفي في هذا الإشارة إلى بعض آيات القرآن الكريم التي تدلنا على حكمة بالغة يمكن الوصول إليها عبر مفهوم المخالفة لنكتشف مدى العبث الذي تقوم به كثير من الأنظمة ـ أو قامت به في الماضي ـ من أجل ما تظن أنه تحقيق للمساواة حين فرضت أو تفرض على المواطنين ظروفا تجعلهم نسخا كربونية من بعضهم، وهو ما سبق القرآن الكريم أيضا إلى التحذير من مغبته حين تحدث عن هذا السلوك.
ولابد أن نعترف أن هذا العبث كان بمثابة السبب الدفين والخفي وراء معاناة بعض الشعوب الإسلامية اليوم من كثير من العقليات السياسية والعسكرية الجامدة التي تظن الصواب مرتبطا بالأسلوب المقيت الذي لا يتيح التميز ولا التمايز، ويسعى بجهد حثيث إلى فرض ظروف الأغلبية على الأقلية في أي تجمع من التجمعات.
ومن المدهش أننا لا نستطيع أن ننكر أن العقليات العربية المعاصرة (بما فيها عقليات كثير من التربويين) لا تزال تعاني من مثل هذا التفكير النازع إلى الشمولية حتى في مناهج التعليم ومساراته، على نحو معروف، وليست هناك حاجة إلى تعداد الأمثلة عليه. وفي اعتقادي أن مثل هذه الأنظمة الجانحة إلى الشمول هي أكبر تهديد لقيمتين متكاملتين حتى وإن بدتا للناس اليوم متناقضتين: قيمة الولاء، وقيمة قبول الآخر.
من حسن حظ العقلية الإنسانية التي رزق الله بها البشر أن فكرة الولاء تتقوي وتتدعم بوجود الآخر؛ فالإنسان ـ أي إنسان ـ لا يحس إحساسا كاملا بانتمائه إلا بوجود مَن لا ينتمي إلى ما ينتمي هو إليه.
ولا أتجاوز إذا قلت إن الإحساس بالانتماء للدين الإسلامي يكون أقوى في المجتمعات التي تضم معتنقين لأديان أخرى، بينما لا يبلغ هذا الإحساس القدر نفسه في المجتمعات التي لا يدين أفرادها بغير دين الإسلام.
وفي داخل الدين نفسه فإنه في المناطق التي يسود فيها مذهب فقهي معين إلى حد أن يتمذهب به المجتمع كله، تجد أبناء هذا المجتمع وكأنه لا يعني انتماؤهم لهذا المذهب شيئا ذا بال، في حين يختلف الحال مع الذين يعرفون المذاهب الأخرى فيحسون بولاء فقهي وولاءات ثقافية أخرى مصاحبة للمذهب الذي يتبعونه.
لعلي بهذه المقاربات المتشعبة (وأمثلتها الشبيهة التي ذكرت الكثير منها في كثير من كتبي وكتاباتي) قد استطعت تصوير حقيقة أن “وجود الآخر” في حد ذاته كفيل بأن يقوي من الشعور بالانتماء. لكن هذا بالطبع يتوقف أساسا -بل بصورة كلية- على إنسانيتنا وإحساسنا بالإنسانية.
على أننا جميعا ندرك أن الوسائل الإنسانية في تعميق الانتماء قد تجنح في كثير من الظروف (بسبب افتقاد الحكمة وربما بسبب افتقاد النوايا الحسنة) إلى الناحية الخطرة من التعامل مع الآخر وهي محاولة نفيه.
وربما تجنح هذه الوسائل الإنسانية إلى هذا النفي بعد محاولة فاشلة لضم الآخر، وجعله ينتمي إلى ما ينتمي إليه الإنسان، وذلك على سبيل المثال هو ما حدث على مدى التاريخ في سياسات التبشير الإجبارية التي لم تحقق عُشر معشار ما حققته -في المقابل- الدعوة إلى الإسلام من خلال التعامل به في مجالات التجارة والحياة اليومية.
وفي الحالين فإننا سرعان ما نواجه بموقف إنساني له انعكاساته التربوية الحساسة والخطرة، وربما لا ندرك أن هذا الموقف الإنساني لا يحدث من تلقاء نفسه وأنه لا يحدث في واقع الأمر إلا نتيجة وجود تشوهات قاتلة في النظام التربوي والتعليمي، وغالبا ما تكون هذه التشوهات غير مقصودة لم ينتبه إليها المسئولون عن هذين النظامين في الوقت المناسب.
وربما أن خير تصوير لهذا الوضع “الإنساني” الحرج هو أن نقول إن هذه الأمراض لا تنشأ في الواقع التربوي إلا كما كان مرض “البلاجرا” ينشأ عند البحارة حين كانوا يحرمون من الفيتامين الموجود بكثرة في الفواكه والخضروات الطازجة، فإذا اعتمد طعامهم وغذاؤهم على الأطعمة الجافة والمجففة لفترة طويلة، و خلا الغذاء “الوارد” الذي يتعاطاه الجسم من هذا الفيتامين أصبح الطريق ممهدا لأن تنشأ أعراض ناشئة عن نقصه، وهي أعراض خطيرة.
ويحدث مثل هذا أيضا في أولئك الذين يعانون من نقص اليود في طعامهم نتيجة وجودهم في بيئات تفتقر إلى وجود هذا العنصر الأساسي والضروري لوظائف حيوية، وتكون النتيجة ظهور أعراض مرض خطير، لكن العلم ينبئنا أن هذه الأعراض سرعان ما تزول عند العودة إلى تناول اليود في الطعام.
والأمثلة على هذا كثيرة.. ولكن وجه العبرة في الموضوع أننا قد لا ندرك السبيل إلى العلاج إلا بعد أن تكون الأمراض القابلة للشفاء قد تطورت إلى أمراض غير قابلة للشفاء.
وربما كان هذا هو جوهر الخطر فيما تعانيه بعض أساليبنا التربوية الحالية من عيب خطير فيما يتعلق بمبدأ “قبول الآخر”.
ومع أن تاريخنا الإسلامي حافل بالأمثلة الكفيلة بتحقيق إمكانية التعدد وقبول الآخر، فإننا نحرص عند تدريسه على اللجوء إلى المصادر التي تجعل الآخر “شيطانا” على الدوام وتجعل كل أعماله بالتالي “رجسا من عمل الشيطان”.
لكل هذه الأسباب فقد كنت على الدوام حفيا أشد الحفاوة بأن نوجه قدرا كبيرا من اهتمامنا التعليمي والتربوي إلى دراسة تاريخ الحركات الوطنية على أساس أكاديمي صحيح بعيدا عن نزعات الأيديولوجية. وما أزال أؤمن كل الإيمان أن تشبع الطلاب بقيم هذه الحركات الوطنية سوف يكفل تنمية فكرة قبول الآخر بما لا يمكن أن تتكفل به أي مناهج أخرى توضع خصيصا لهذا الغرض.
وربما أنتقل الآن مما هو وطني وقومي وتاريخي إلى ما هو ديني، ومن حسن الحظ أيضا أن الحضارة الإسلامية عرفت تعدد المذاهب الفقهية دون أن يعني هذا أي نوع من التقسيم أو الانعزال، وليس أدل على هذا من أن الباحثين الذين أعدوا تقرير الحالة الدينية الذي صدر عن مؤسسة “الأهرام” منذ سنوات قليلة، وجدوا مشقة كبيرة في الحصول على المذهب الفقهي الذي كان كل شيخ من شيوخ الأزهر يتبعه، ولم يساعدهم على هذا إلا البحث في مؤلفاتهم الفقهية التي علقوا بها على كتب مرجعية معروفة في المذاهب المختلفة.. بل إن ما هو أبلغ من هذا دلالة هو أنه على الرغم من إتاحة بعض هذه البيانات في التقرير فإنه يصعب حتى على الذين أعدوا التقرير نفسه أن يجيبوك من الذاكرة عن مذهب أي شيخ من شيوخ الأزهر إذا سألتهم عنه فجأة.
فالذاكرة لا تسعفهم بمثل هذا لسبب واحد وبسيط هو أن أحدا من هؤلاء جميعا لم يصبغ حياته ولا فكره ولا إنجازه ولا أداءه في منصبه كشيخ للأزهر بصبغة مذهبية. وهذا من حسن الحظ بلا شك، بل هو فضل من الله لا نقدره حق قدره.
وربما يدفعني هذا إلى أن أكرر هنا ما سبق أن ذكرته في مواضع كثيرة منها حديث تليفزيوني طويل أجراه معي التليفزيون السوري في 1997، وفيه ذكرت أن أسلافنا من مسلمي العصور الخوالي أوقفوا وقفا خاصا في الأزهر ينفق من ريعه على الطلاب الذين ينتظمون في دراسة أحد المذاهب الفقهية الأربعة، إذا ما تعرض مذهب من هذه المذاهب لانصراف الطلاب عن دراسته، وذلك من أجل الإبقاء على كل المذاهب الأربعة مدروسة على المستويين العلمي والأكاديمي، ويندر بالطبع أن نجد في أية حضارة من حضارات الأرض هذا الوعي العميق والإيجابي (في نفس الوقت) بمثل هذه القيمة الرفيعة والتسامحية من قيم الإنسانية.
ومع هذا فمن الإنصاف أن نذكر أيضا وأن ندرك ونعلم علم اليقين أن حيوية الأزهر-في الماضي- كمؤسسة تعليمية تمثلت في حفاظه وبشدة على مناهج وتقاليد كلاسيكية رفيعة المستوى في الفكر والتكوين.. ولم يأت هذا بالطبع بمحض المصادفة، ولكنه جاء نتيجة بناء المناهج بحكمة وباقتدار على يد أناس وصلوا إلى أقصى الحكمة بفضل العمل بالعلم طيلة نصف قرن على الأقل.
وربما لا نعرف اليوم أسماء هؤلاء الذين يرجع إليهم هذا الفضل.. ولكن الفضل مع هذا يبقي بارزا وشامخا ينادينا أن نستقي منه الحكمة، وأن نستقطر منه الخبرة، وأن نبني على ما بناه الأولون.
تاريخ النشر : 2016/09/06
تم النشر نقلا عن موقع الجزيرة نت
ولقراءة المقال على موقع الجزيرة.نت اضغط هنا
للعودة إلى بداية المقال إضغط هنا