كانت ضرورات الأشكال الهندسية تفرض نفسها بقوة في التصميم، وكان هذا الفرض ظاهرا بكل وضوح في تصميمات السيارات والمباني والسطوح حتى جاء عصر التكنولوجيا العالية (على نحو ما يسمى الآن في أدبيات الهندسة) فأتاح للإبداع الفني أن ينطلق بصورة اتخذت من الأشكال الهندسية الجامدة بداية بدلا مما تعود الناس على ه من أن تكون هذه الأشكال هي النهاية.
وهكذا أصبح الهيكل الخارجي للسيارات -على سبيل المثال- يدور في إطار الأشكال المستطيلة وإن لم يكن فيه من المستطيل إلا حدوده الجوهرية من حيث الأضلاع الأربعة التي يتساوى كل اثنان منها ويتوازيان، بينما الخطوط نفسها متعرجة غير مستقيمة لكن الخط المستقيم الذي تتحرك حوله لا يزال موجودا بطريقة تدركها البصيرة ويستكنهها البصر بيسر.
وأصبح اللجوء إلى هذا التحور مدعاة لافتخار العقل البشري بقدرته على توظيف المتغيرات الهندسية والفراغية من أجل تحقيق مكاسب ديناميكية لا يستهان بها كتقليل مقدار المقاومة الناشئة عن الرياح وما يترتب على هذا التقليل من الحد من استهلاك الطاقة اللازمة للتشغيل أثناء الانطلاق وفي بدايته أيضا.
ومع الزمن لم يعد هناك محل للخوف من صعوبة إعادة تشكيل هذه الأجزاء المتموجة التي حلت محل الأجزاء القديمة ذات الشكل الثابت؛ فلم تعد الحاجة الملحة لإعادتها إلى صورتها الأصلية مرتبطة بمعالجة يدوية أو إصلاح جزئي وإنما تحولت الصورة إلى إعادة إنتاج كاملة بتكلفة تقل كثيرا عن تكلفة المعالجات القديمة التي كانت تتراوح بين الترميم والإصلاح في إطار من سياسة إعادة التشكيل وصولا إلى الشكل الكلاسيكي أو إلى شكل آخر مرتبط به في جوهره؛ وقد تواكب هذا المعنى مع حركيات التجارة العصرية ذاتها في ظل سيادة مفهومين حاكمين هما مفهوم الإنتاج الكثيف والهندسة العكسية الموظفة للنمطية المكتملة من ناحية أخرى.
وبلا أدنى مبالغة فإن السياسة الدولية بدأت في عاميها الأخيرين تنتهج كل تفصيلات هذا النهج من المرونة الكاملة في التوجه إلى سياسات متموجة، بل وعلى درجات عالية من التموج مع حفاظها على خطوط أساسية من الانتماءات الأيدولوجية والعرقية والذرائعية.
ومن الإنصاف هنا التذكير بأن القول بهذا الذي أقول به قمين ألا يحظى بقبول فوري ممن تعودوا أن يخضعوا الفعاليات السياسية وتجلياتها الدبلوماسية لمنطق مكتمل البنيان والوضوح؛ لكنهم في ظل عجز مؤكد عن تفسير الفعل الآني قد لا يمانعون في مناقشة مثل هذا التفسير قبل أن يجدوا أنفسهم حيارى أمام ظواهر وتقلبات “أكروباتية” لا بد لهم من أن يجدوا لها تفسيرا بأدواتهم التقليدية ومعرفتهم السابقة الملمة جيدا بأساسيات الصراع وتطوراته.
وعلى سبيل المثال فإن العلاقات الروسية الأميركية في العامين الأخيرين لم تلتزم في لحظة واحدة بأي شكل من الأشكال المعهودة فيها على مدى تاريخ الدولتين، ووصل الأمر إلى حدود بدا معها وكأن أميركا هي التي تستحث روسيا على إحراز الأهداف السهلة في الشباك الأميركية، أو كأنها تهديها على التوالي، فوزا سهلا بلا مقابل في مناطق حيوية من قبيل أوكرانيا ومصر واليمن والخليج.
وعلى سبيل المثال أيضا ومن زاوية رؤية مختلفة فإن الموقف الأميركي من الشعب السوري الذي لا يمكن وصفه إلا بالمهين صب بالتبعية وعن تعمد أميركي واضح في مصلحة الصورة الذهنية المنتصرة لروسيا وإيران، وفضلا عن افتقاد هذا الموقف الأميركي من الثورة السورية لأدنى درجات الإنسانية -أو حتى البراغماتية- فإن قياسات الاسطح المتموجة التي زودتنا بها التطبيقات التي تتعامل مع التكنولوجيا العالية كشفت لنا بكل وضوح وبعد تأمل عن أن مصلحة أميركا في استنزاف السوريين وجيرانهم بالتبعية صارت تحقق لأميركا من الفائدة أكثر بكثير مما يحققه الوصول إلى حل.
وقد بات واضحا ما كنت أول من قال به من أن بقاء بشار يمثل لأميركا فوائد مطلقة، ويمثل للسوريين وحدهم الخسارة الفادحة فحسب، بينما يمثل للباقين ثنائية مضطربة من عوامل المكسب والخسارة، كما هو الحال مع تركيا وروسيا وإيران والسعودية وإسرائيل وأوروبا، ولهذا السبب فإن أميركا تتموج بسياستها من أسبوع لأسبوع من خلال قياسات شيطانية لعوائدها النفعية المباشرة وغير المباشرة من تفاقم صراع إنساني أهمل ساستها البراغماتيون بعده الإنساني وحولته سياساتهم إلى تجربة معملية قاتلة للبشرية.
ومن الإنصاف هنا أن نقول إن بعضا من الدول الأخرى المتطلعة إلى مكانة دولية يشار إليها قد اقتدت بأميركا بدرجات كبيرة من الذرائعية المستندة إلى هذا النمط الفظ من التجارب المعملية غير الأخلاقية وغير الإنسانية أيضا.
وعلى سبيل المثال فإن إيران صاحبة شعار الموت لأميركا، وصاحبة تعبير الشيطان الأكبر قد عادت بعد أربعين عاما إلى تقاربها “الشاهنشاهي” الحميم مع الغرب بعد تجربة معلنة من التعاون المتنامي مع الروس، وبررت هذا لجمهورها المتحمس لولاية الفقيه بأنها أصبحت تدرك أن مصالح شعبها في هذا التوجه، ولهذا فإنها في رأي محبيها قد اتخذت الموقف المناسب في الوقت المناسب سواء كان هذا بالتفاتة أيديولوجية بارزة أو بانتفاضة براغماتية واضحة.
وفي الإطار ذاته فقد كانت روسيا سابقة منذ عقدين في نفض يدها من أصدقائها بدرجة عالية من الغدر غير المتصور وذلك حين سربت للغرب شفرات الدفاع الجوي العراقي في حرب الخليج الثانية، وحين سلمت لأميركا، يدا بيد، كل المعلومات الخاصة بمنظومة الدفاع العراقية.
وقد وصل رد الفعل العربي تجاه هذه السلوكيات إلى درجة كبيرة من الاستياء المميت عند أنصار العراق وصدام وإلى درجة السعادة والشماتة المعلنة عند أعداء صدام، لكن أيا من هؤلاء وأولئك لم يرجع بذاكرته المجهدة للخلف ليتفهم أو ليعترف بالدوافع العبقرية في قرار السادات بطرد الخبراء السوفيات في 1972، وهو القرار الذي فاجأ الآخرين الذين لم يعرفوا أن السادات لم يفعل هذا إلا بعدما أدرك صحة ما أحسه من أن أسراره صارت كتابا مفتوحا أمام عدوه بفضل صديقه! وقد كان الموقف الأميركي السوفياتي المتواطئ هو قمة الانسيابية الانتهازية والمبكرة في إستراتيجية مرحلة الحرب الباردة.
في مقابل هذا الفهم المستقصي فإن العالم المتعاصر مع الحقيقة أصبح ينظر بازدراء شديد إلى نموذج الخطوة المسرحية التي قام بها الانقلاب العسكري المصري موحيا لنفسه بأنه ينتهج سياسة التمحور مع روسيا على حساب أميركا مع ما هو معروف للجميع من أن أميركا تمتلك كل المفاتيح التي تجعل من العلاقات العسكرية المصرية الأميركية علاقات إستراتيجية لا يمكن لمصر الانقلابية ولا لداعميها في الخليج -ولا لمصر غير الانقلابية أيضا- أن تنتهكها لمصلحة فرنسا أو روسيا على الرغم من كل ما هو مقدر ومتواتر من تفهم أميركا العميق والكامل لحاجة فرنسا “الجادة” وحاجة روسيا “الحادة” إلى بعض من أموال الخليج تحت ستار تمويل أية صفقة لمنتجات عسكرية في إطار واضح “أو خفي” من المباركة الأميركية معلنة كانت أو غير معلنة!
ومع هذا فإن أميركا الرسمية لاتزال ترحب ترحيبا مهذبا وكوميديا بأية تصرفات مسرحية هوجاء توحي كذبا بأن “التعاونات” الروسية مع الانقلابيين المصريين قد تطورت حتى تطرفت في صورة محاور وأحلاف! وهي سعيدة بالطبع بوجود طراز متخلف من الانقلابيين يظن أن في وسعه أن يعيش -مع شعبه فقط- ذكريات الماضي ويسترجعها بأغنيات الزمن الجميل، بينما تدير أميركا الأمور عن بعد بالريموت، كما الطائرات بدون طيار.
وبينما دخلت روسيا والصين مع أميركا تحت مظلة مجموعة الثمانية فإن حلف قبرص واليونان مع مصر لا يزال يقتصر في فعالياته على صورة تذكارية.
وعلى الرغم مما يسجله التاريخ المعاصر من نجاح نمط هذه الإستراتيجيات الانسيابية التي انتهجتها إيران وروسيا كما انتهجتها أميركا بقدر أكبر من الانسياب والمرونة، فإن هذا التاريخ يسجل بكل وضوح أن قوتين أخريين هما تركيا (الأردوغانية) وألمانيا (الميركلية) قد انطلقتا في هذا الميدان بنجاح أكثر وثوقا، وأكثر أخلاقية، وربما حقق نجاحهما الواثق بفضل التزامه الأخلاقي الذي فاق بكل تأكيد الدرجات المحدودة في إستراتيجيات إيران وروسيا والمعدومة في إستراتيجية أميركا.
بالطبع فإن هذا النجاح الذي نلمح إليه لم يصل إلى درجات قصوى من الأخلاقية المنشودة في عالم يهفو إلى سيادة القيم النبيلة لكن الأمر المؤكد هو أن هاتين الإستراتيجتين الناجحتين حققتا درجات متقدمة من الالتزام الأخلاقي تجاه شعوب قهرها حكامها، وشعوب أخرى قهرتها موجات الترصد والكراهية.
ولهذا السبب فقد كان رأي الجماهير من الانقلاب التركي الفاشل مختلفا بشدة في جميع أنحاء العالم عن الآراء المقولبة التي كانت مافيا الإعلام العالمي قد أجادت إعدادها وبدأت إلقاءها، وحدث شيء شبيه بهذا في المشاعر الأولى والنهائية تجاه حادث ميونخ بكل مفارقاته المنقلبة من توقع إلى نتيجة كانت مريحة لأعصاب الإنسانية المعذبة بقولبة كاذبة.
تاريخ النشر : 2016/7/31
تم النشر نقلا عن موقع الجزيرة نت
ولقراءة المقال على موقع الجزيرة.نت اضغط هنا
للعودة إلى بداية المقال إضغط هنا