إذا قُدِّر لقارئ التاريخ بعد ربع قرن من الآن أن ينظر بتأمل إلى أحداث الشهرين الأخيرين، فإنه سوف يندهش مما حدث من تواكب مجموعة قرارات دولية وغربية لا يمكن وصفها إلا بأنها تحريضية، ومستجلبة لعداء التاريخ الإسلامي وحاضر هذا التاريخ.
وقد اقترنت هذه القرارات زمنيا ببعضها البعض بطريقة يصعب معها تقبل فكرة أن تعزى إلى المصادفة، بينما ينمو ويزدهر القبول بفكرة التخطيط المسبق لإصدارها متتابعة بنية المصادقة لا بطريق المصادفة.
وقد أتى في مقدمة هذه القرارات ذلك القرار الذي بدا مفاجئا حين وافق البوندستاغ (البرلمان الألماني) على اعتبار ما حدث للأرمن مذبحة؛ وهو ما استدعى إلى الأذهان ما تم قبله بقليل في قرار الكونغرس (البرلمان الأميركي) بالسماح للمواطنين الأميركيين بمقاضاة السعودية عن أحداث 11 سبتمبر.
وقد كان هذان القراران بمثابة قمة جبل الجليد لمجموعة سابقة وأخرى لاحقة من القوانين التي تصدر عن تضخيمات (ولا نقول مبالغات) ملحوظة فيما قد يوصف بأنه تناقض متباين في فهم فكرة المسؤولية.
فحين تطوع الغرب بوضع بروتوكولات محاربة ما أسماه بالإرهاب، والتزمت معظم الحكومات العربية بالتطبيق الجيد (وأحيانا المتفاني) لهذه البروتوكولات؛ عاد الغرب نفسه ليلقي بالمسؤولية عن المخاطر على عاتق الدولة (أو الدول) الملتزمة بهذه البروتوكولات، أو التي هي -بمصطلحات السوق الاقتصادي- “دولة مؤمنة لديه” أوفت بالتزاماتها التعاقدية في مشروطية التأمين أو عقوده.
ويعني ذلك ببساطة شديدة أن “شركة” التأمين أو مؤسسته لم تقف عند حد الإخلال بواجباتها التعاقدية فحسب، ولكنها بدأت تطالب بما لا حق لها فيه مما يقع الحق فيه على شركة التأمين نفسها (وهو الغرب نفسه) بحكم مشروطية التأمين وتعاقداته.
والنتيجة الطبيعية بل التلقائية لمثل هذه الممارسات الصانعة لهذه السياسة (التأمينية)، أنها سرعان ما تحقق انخفاضا ملحوظا في الثقة بمؤسسة التأمين أيا كانت طبيعتها التمويلية والهيكلية، بما في ذلك أن تكون دولة أو تجمعا اقتصاديا.
وبعيدا عن التمنيات غير المرغوبة وعن التشبيهات غير الكاملة وعن المقارنات غير المستوفية لأركانها، فإن أحجار التشكك المؤدية للتفكك في كل الإمبراطوريات الحديثة كانت قد بدأت على نحو شبيه بما يحدثه الأميركيون في علاقاتهم العربية الآن، أو بعبارة صريحة: في نهاية عهد الرئيس بارك أوباما.
فقد كانت اتفاقية بريتون وودز للنقد 1944 (إضافة إلى ما كان لها من جوهريتها في الاقتصاد وسوق النقد والعمل المصرفي)، بمثابة بداية التحول عن المكانة المرموقة للجنيه الإسترليني والمعبرة عن مكانة الإمبراطورية البريطانية، حتى إن بريطانيا نفسها أفقدت عملتها 30% من قيمتها في 1949.
لكن الحقيقة الأكثر أهمية التي يدركها المؤرخون المتمرسون، كانت أن إمبراطوريات أوروبا كلها أجبرت منذ ذلك الحين على ترك الصدارة للولايات المتحدة الأميركية، وهو سرعان ما تأكد في العام التالي 1945 عند إنشاء هيئة الأمم المتحدة.
وارتبط بهذا ما نود أن نشير إليه إشارة خاطفة هنا، من شيوع مصطلح “الخروج من منطقة الإسترليني”، وهو مصطلح غني عن الشرح بصياغته الموحية في حد ذاتها.
وفي هذا الصدد أيضا، كانت تدافعات التناقضات الإصلاحية المفاجئة في النظام السوفياتي -الذي طال جموده وركوده- مقدمة لتفكك عالم الاتحاد السوفياتي من ناحية، والعالم المرتبط بحلف وارسو من ناحية ثانية أعقبت الأولى بسرعة بالغة.
وفي ما قبل هذا، كان انهيار دولة الخلافة الإسلامية في مطلع العشرينيات تاليا لما عرف بأنه الانقلاب العثماني المنصبغ بانحياز قومي غير مبرر، والمترافق مع ما صور على أنه ثورة عربية غير مكتملة أظهرت وأخفت وراءها في الوقت نفسه أصابع استعمارية قديمة/متجددة في مصالح اقتصادية بازغة. وقل مثل هذا في تداعيات الحلول السياسية التلفيقية لقضية الجزائر وما قادت إليه من التراجع النهائي في النفوذ الفرنسي فيما وراء البحار.
في كل هذه الحالات يبدي المركز كثيرا من التعبير بوضوح عما يدل أو عما يوحي بأنه ناء أو بدأ ينوء بمسؤوليته عن الأطراف المرتبطة به، مرحبا (قسرا أو رضاء) بالمصير التاريخي الذي يعيد تشكيل وترتيب وحسابات عناصر المعادلات بما يريح المركز أو يوفر له طاقته!!
وقد تبدت لهذا التفسير ملامح زاعقة وشديدة الوضوح في الخطاب السياسي للمرشح الأميركي الجمهوري دونالد ترامب، وهي ظلال قوية لم تأت من فراغ بل إنها تعبر عن نفسها أيضا بتلطف واضح في الخطاب السياسي للمرشحة الديمقراطية هيلاري كلينتون التي عركت هذه المشكلات وهي وزيرة للخارجية، وكان عراكها دائبا وهادئا دون صياح أو صراخ.
وفي هذا السياق فقد آثر الأميركيون إعادة إنتاج فكرتهم في تقييم وتعويم الحاجة إلى التخفف من الأعباء، باللجوء مباشرة إلى الحد الأقصى من توريط “الآخرين” بإثبات مسؤولية هؤلاء “الآخرين” عن ماض منقطع الصلة بالحاضر، لكنه يصلح على كل حال (وفي كل حال) للمماحكة المستنفدة للوقت والمستنزفة للأموال والمستفزة للأعصاب، والجالبة -بالتالي- لتمويل ما (أي تمويل) سواء من باب التعويض أو التغريم أو الترضية أو التوفيق أو التوافق أو الاتفاق؛ مع الاختلاف الكبير بين هذه المعاني جميعا.
ومن حسن حظ الأميركيين أن مجموعة مواصفات “الآخرين” تحققت بنموذجية تاريخية في مجموعات بعينها من المسلمين المعاصرين المتمتعين بالملاءة النقدية المعقولة والمقيدة.
وقد حدث هذا التحقق بصورة غير مسبوقة على هذا النحو في مثل هذه التفاعلات الدولية، وهي صورة ربما تصبح أيضا غير ملحوقة ولا قابلة للتكرار في ظل ما تخطط له السياسات التي بدأت تعبر عن هدفها بما يشبه الصراحة في معاداة جماعات أهل السنة من المسلمين بدأب وتنوع وتعاقب وتكرار، بما قد يصل (في حالة ضعف الوعي) بهذه المعاداة الجزئية لفكرة ما إلى درجة الاستئصال والإبادة لجماعات وشعوب؛ وهو معنى لم يكن من الوارد ولا المتوقع أن يصرّح به أحد.
لكنه وجد بدايته الخطرة على يد الرئيس الأميركي أوباما، وازدهر بسرعة البرق بسبب إلحاحه المفاجئ على الهروب من الاعتذار عن مواقفه في سوريا إلى نقد المحتوى الفكري للإسلام في دول بعينها بطريقة قاسية، منتزعا ومقتبسا تعبيرات عابرة في دراسات متطرفة ليضعها في قلب مناقشات سياسية تدافع بالباطل عن فكرة الانقلابات على الديمقراطية وحقوق الإنسان.
ومن المثير للعجب أنه أنجز أطروحاته هذه باللجوء إلى نقد العقيدة والتربية معا، مع خلط واضح في الإسناد جعله مضطرا إلى أن يبرر ظلم المجموعة الذي يشارك هو في تبنيه بما أحسه من انتهاجها سلوك المجموعة التي تشاركه الظلم؛ وقد جاء انحياز أوباما المفاجئ لإيران على حساب ثوابت العلاقات الخليجية الأميركية بصورة تدعو للتشكك في مدى حفاظه على تراث أميركي ناجح كان مضرب المثل في العلاقات الدولية.
بيد أن مكمن الخطورة يتمثل في أن الصيغة المستحدثة للولاءات الأميركية في العلاقات الخليجية باتت في حاجة ماسة إلى كثير من ضبط الإيقاع والإخراج، فإن الجهد الأميركي في هذا الصدد أصبح يتناقص تدريجيا وعمدا حتى يكتفي بالتصريح، كما أنه من ناحية أخرى أصبح يتناقض سريعا وبالتنامي حتى يظهر تناقضه واضحا مع كل تصريح جديد.
وقد ارتبط هذا التوجه الجديد أو المفاجئ بظلال من تفكير إنساني قاصر في قدرته على بناء علاقات تحالف سليمة (وربما أنه مقصر)، وتمثلت هذه الظلال مثلا في قول كقول ترامب الفج إن أميركا تحمي الخليج مجانا، بينما العالم كله يعرف الحقيقة وهي أن الاقتصاديات المرتبطة بما يمكن تسميته حماية، تمثل أفضل الاستثمارات المتاحة أمام الاقتصاد الأميركي على مدى القرن الماضي كله.
تمثلت هذه الظلال أيضا في القول بمسؤولية حركات إسلامية إصلاحية عن ممارسات إرهابية، بينما حاربت هذه الحركات بدمها وعرقها هذه الممارسات متكفلة بما لم تتكفل به أميركا ولا الغرب، ومتكلفة بما لم تتكلف به أميركا ولا الغرب.
وتمثلت هذه الظلال ثالثا في الادعاء بنجاح أميركا في مهمتها الحمائية المزعومة، بينما الحقيقة تثبت لأميركا (قبل غيرها) المسؤولية عن عوامل التقويض والتدمير الذاتي والتحريض والتحرض؛ وهي مسؤولية تفوق في عواقبها وتبعاتها كل ما هو ممكن من الحمائية الأميركية المزعومة.
وفي هذا الصدد فقد بدأ دارسو العلاقات الاجتماعية يدركون حقيقة مهمة، وهي أن استقواء الحركات الحديثة بالنصوص الدينية كان في المقام الأول والأخير منتجا أميركيا بحتا، لم يسبق المسلمون الراديكاليون (المتهمون به) أنفسهم إليه.
ولم يسجل البريطانيون ولا الفرنسيون أي منجز في سبيله، وكان هذا طبيعيا إلى أن جاءت مفاهيم الحراك الأميركي المفرط في توظيف القوة (المحدودة وغير المحدودة على حد سواء) إلى العمل خارج حدود العقل البشري.
تاريخ النشر : 26/6/2016
تم النشر نقلا عن موقع الجزيرة نت
ولقراءة المقال على موقع الجزيرة.نت اضغط هنا
للعودة إلى بداية المقال إضغط هنا