تاريخ النشر : 2004/12/21
الأصل في الميادين أن تكون وسيلة للانتقال من محور إلى محور, والأصل في المحاور أن تكون أقصر الطرق بين نقطتين, والأصل في الطرق أن تؤدي إلى غاية, لكننا لانزال نظن أن طبيعة الميدان أن يكون ساحة انتظار كبيرة, وأن المحاور مشتقة من المحاورة والمداورة تعود لتبدأ من حيث انتهت, وأن الطرق لابد أن تؤدي إلى نهاية مسدودة.. وعندها يبدأ البحث عن بداية جديدة.
أليس هذا هو جوهر تعاملنا مع مياديننا الكبرى, وفي مقدمتها ميدان رمسيس؟!.. تحتفل المحافظة بأمجادها الضخمة(!!) في نقل( وتصفية) موقف أحمد حلمي لركاب الأقاليم من الحديقة الخلفية إلى ميدان رمسيس, ثم لا تلبث أن تجعل هذه الحديقة الخلفية موقفا للميكروباص والسرفيس, وتحتفل إدارة المرور بوقف الدخول إلي شبرا من الكوبري العلوي فوق خطوط السكك الحديدية, ثم لا تلبث أن تحتفل بإعداد هذا الكوبري وترصيفه وتنعيمه ليكون المسار الإجباري والقاسم المشترك في خطوط هيئة النقل العام جميعا, وتنتشر الحملات صباح مساء من أجل تفريغ الميدان, وتضع من أجل هذا حواجز من الصلب لكن الحاجة الملحة إلى تفريغ الميدان تجعل ما كان يتم على الأجناب ينتقل ليتم في نهر الطريق, وهكذا يزعم الخبراء أنهم قضوا على تصلب الشرايين بتذويب الترسبات الملاصقة للجدران فإذا هم يوزعونها على وسط المسار العمومي, وكأن لسان حالهم يقول: إن المساواة في الظلم عدل.
ما هي الوظيفة الصعبة التي يعجز ميدان رمسيس عن أدائها ويظهر متخما دائما ومتكدسا دائما؟ تكمن هذه الوظيفة في مشكلة واحدة فقط ليس إلا, وهي أن هذا الميدان أصبح مجرد توسع في شارع طولي واسع, وأن هذا الشارع الطولي الواسع ذا الاتجاهين العريضين مطالب بأن يتيح فرصة جيدة لعبوره بالورب في اتجاهين كبيرين فقط: الأول اتجاه القادم من الشمال.. أي غمرة ومصر الجديدة وأخواتهما, راغبا في الدخول إلى شارع الجمهورية وأخيه الفجالة بدلا من أن يسير في المسار الطوالي في رمسيس نفسه, والثاني هو إتاحة الفرصة للقادم من الجنوب, أي من التحرير والإسعاف وأخواتهما, للعبور إلى محطة السكة الحديدة حتى يمكن لقاصدي السكة الحديد أن يصلوا إلى قطاراتهم.
نتأمل الوضع الحالي فنعجب من أن العبور بالورب في الاتجاه الثاني لا يتم من خلال الميدان, وإنما يتم بعيدا بعيدا على بعد أكثر من كيلومتر قبيل غمرة!! ومع أن هذا الحل غير عملي, فإنه يزيد العبء على شارع رمسيس, وعلى ميدان رمسيس, لأنه يجعل معدل التدفق يتضاعف دون أدني مبرر, بل إنه يجعل كل سيارة تستهلك من السعة المرورية التي يخلفها حرم الطريق مسافة2 كم دون أي فائدة تذكر أو تتحقق من نظرية الدوران للخلف عن بعد التي ازدهرت في حياتنا المرورية دون مبرر, ودون عائد أيضا.. وهكذا فإن الحل غير العملي قد أضاف إلي المشكلة من حيث لا يمكن لذي النظرة الضيقة أن يدرك الحقيقة, فإذا به يقول: لكن علي أي الأحوال, فإن الميدان ليس مطالبا بهذه الوظيفة الآن, وإنما اقتصرت وظيفته على مهمة واحدة فقط.. أو على إشارة واحدة فقط.. ومع هذا فالميدان مزدحم.. فهل تنتج المشكلة الكبرى الموجودة في الميدان من مجرد الحاجة إلى إيقاف التيار المتدفق من الجنوب إلى الشمال حتى يعبر التيار القادم بالورب من الشمال إلى الجنوب الشرقي, أي إلى شارع الجمهورية أو شارع الفجالة؟
الإجابة نعم!! وإذا كانت المشكلة بهذا الوضوح المذهل في تشخيصها, فإنها لا تحتاج أكثر من نفق بالورب ينقل الحركة القادمة من الشمال إلى شارع الجمهورية مباشرة على أن يبدأ هذا النفق قبل ميدان رمسيس بنصف كيلومتر, وأن يصب في شارع الجمهورية بعد بدايته بربع كيلومتر, وأن يتاح بعده شارع قوسي إلى اليسار ينقل التدفق الراغب في دخوله الفجالة والظاهر من شارع الجمهورية مباشرة.
هكذا يمكن حل المشكلة القائمة الآن, فهل نطمع نحن القراء في أن تدلنا حضرتكم على حل مناظر للاتجاه الوربي الآخر, أي لدخول القادم من رمسيس إلى محطة السكك الحديدية.. طبعا المسألة لم تعد في حاجة إلى كثير من التصور, وهو أننا بحاجة إلى نفق آخر أقل تقوسا من الأول الذي وصفناه على أن يكون النفق الثاني في حضن النفق الأول, بحيث لا يعوقان بعضهما, وبحيث يتم إنجازهما معا مكونين ما يشبه الشكل الناشئ عن تماس قوسين مختلفي اتجاه الفتح, أي أنهما ليسا قوسي النص, وإنما أولهما هو قوسي نهاية نص, والثاني قوس بداية نص جديد وأيمنهما أطول من أيسرهما.. لكننا ربما نواجه مشكلة نظرية كبري, فمن المعروف أن ما تحت الأرض في ميدان رمسيس لم يعد فضاء مطلقا, ففيه محطة مترو أنفاق ضخمة تستقبل خطين من خطوط المترو, وأنا أعرف هذا كما أعرف أن ما تحت الأرض حافل بالمرافق المتعددة, لكن حسن الحظ قد مكن مصر المعاصرة من أن تكون لها شبكة معلومات لمرافقها, وهي شبكة ذكية ودقيقة تعمل بكفاءة. وقد كنا منذ جيل نخاف فتح القلب لإجراء الجراحة, ومع هذا فقد أصبحنا الآن لا نستسهل جراحة من الجراحات المتخصصة بالقدرالذي أصبحنا نستسهل به جراحات القلب, حتى أصبحت المراكز المتقدمة تجريها لمن هم فوق الثمانين, وفوق التسعين, ولمن هم في الأسابيع الأولى من عمرهم. وكلنا يعرف أن ميدان رمسيس لايزال, برغم كل شيء, حيا لم يصل إلى شيخوخة ابن الثمانين, كما أنه ميدان ناضج تعدي مرحلة الطفولة والصبا من زمن بعيد.