يستسهل كثير من الباحثين والأكاديميين ترديد القول بضعف الخبرات الإسلامية النشطة في مجالات العلاقات الخارجية، والسياسات الإقليمية والدولية.
وينطلق هؤلاء في مثل هذا التقرير من فرضيات شبه تقليدية غذتها بحوث غربية غير مباشرة، ومن انطباعات ذهنية مستقرة تحتفظ حتى الآن بصورة سيئة عن أداء قاصر لمؤسسة الخارجية المصرية في الحقبة الناصرية حين “تعسكرت” مناصب السفراء بنسبة ٧٠٪، وهي نسبة لم تسجل في أي مكان آخر.
ويتذاكر هؤلاء مصائب الأداء الدبلوماسي الإسلامي والعربي في تلك الحقبة التي كانت مصر تتحمل فيه -في ظاهر الأمر- وتستحوذ أيضا على جزء كبير من مقدرات السياسة العربية، ونكساتها كذلك، ويتذاكرون بسهولة الحقيقة المرة الكبرى وهي أن هذه العسكرة المشوبة أو المغطاة بفكرة تجانس الفريق لم تؤت ثمارها المفترضة في تنسيق المواقف أو تفعيل الرؤية الإستراتيجية التي زعمت البروباجندا العربية أن مؤتمرات القمة العربية منذ 1964(ومن بعدها بروباجندا ما سمي بلجنةالقدس) قد أنجزتها، وإنما كانت النتيجة عكسية ومعاكسة تماما.
فقد آتت هذه العسكرة الدبلوماسية أو الدبلوماسية المتعسكرة بثمارها التلقائية السلبية، بل العميقة في تداعياتها السلبية في التوجه نحو المشتريات والنزهات وتنسيق ما تتطلبه وتفرضه التطلعات الطبقية في زيارات الأسر الثورية الحاكمة.
وبلغ الأمر بهذا الفشل أن هزيمة يونيو/حزيران ١٩٦٧ حدثت دبلوماسيا قبل أن تحدث عسكريا، وتأكدت دبلوماسيا قبل أن تتوكد عسكريا، وهما حقيقتان لم تجدا حظهما بعد من الدراسة الجادة، على الرغم من كل ما كتب وسجل حتى الآن، وإن كانتا (الهزيمتان) قد وجدتا حظيهما من الاقتداء المتكرر فيما يمكن تسميته بالسلوكيات الجمهورية العربية بطريقة أصبحت ملهمة لكل الهزائم العربية الشمولية التالية لمأساة 1967 بما فيها أو حتى على رأسها سقوط بغداد المهين، في وقت كانت الدبلوماسية العربية كفيلة لو وظفت بمهنية أن تمنع المأساة، لكنها للأسف كانت قد دربت تماما على أن تلعب من الأهداف ما يسجل للخصم (أو ما يسجل على الذات) فيما يعرف في اللغة العسكرية بالنيران الصديقة، وفي التعبيرات الشعبية الواصفة لمباريات الرياضة بأنها الأهداف التي يسجلها الفريق في نفسه.
ومن المفيد لتاريخنا ولمستقبلنا على حد سواء أن نعترف بأن الدبلوماسية المصرية في الستينيات قد أضفت -ودون قصد أو تخطيط متكامل أو شبه متكامل منها- ملامح هذا الطابع الخاص من السعادة الحماسية بتسديد الأهداف في ملعب الذات بما تسميه عزة وكبرياء، وساعدت بفضل قوة الماكينة الإعلامية الجبارة على أن تفرض هذا الأسلوب على كثير من التجارب الدبلوماسية العربية التي استلهمت التجربة الناصرية، وأفادت من قدراتها المذهلة ونجاحاتها الساحقة في الحفاظ على تأله الزعيم، وعلى حياة الزعيم متألها وملهما، وعلى بقاء الكرسي تحته ثابتا وفخورا.
وهكذا انتصرت الدبلوماسية المتعسكرة بتغليب نجاحاتها في تلبية الاستحقاقات الداخلية والذاتية على واجباتها في المحيطات والمحطات الخارجية.
ومن الطريف أنه في مقابل هذا الفشل العميق في تحقيق الأهداف الوظيفية الأصيلة كان هناك عامل “تاريخاني” مهني حفظ للدبلوماسية المصرية -في الظاهر- مكانة الأستاذية لا الريادة فحسب؛ وقد تمثل هذا العامل في التفوق الملحوظ الذي كانت بعض الشخصيات الدبلوماسية المصرية من عهد الملكية والليبرالية تحوزه أو تتمتع به من حيث تواصلها الشخصي والبروتوكولي مع الشخصيات الدبلوماسيات الغربية بحكم ما كانت تتمتع به مصر من ثراء مادي وشخصياتي وعلمي وأسبقية في التواجد الدولي الرسمي.
وهو ما تجلى على سبيل المثال في معاصرة و”زمالة” الدكتور أحمد عصمت عبد المجيد ومن قبله الدكتور محمد حسن الزيات للرئيس الأميركي جورج بوش الأب في تمثيل مصروالولايات المتحدة الأميركية لدى الأمم المتحدة، وهي زمالة تجبرك تلقائيا على أن تتأمل فيما حدث هذا الأسبوع من اضطرار المندوبة الأميركية أن تخاطب المندوب المصري في مواقع التواصل الاجتماعي بقولها له علنا.. عار على مصر.
ومن الطريف أن هذه العوامل “التاريخيانية” لا تزال تحتفظ بآثار دالة عليها في الأرقام الترتيبية للبعثات الدبلوماسية المصرية في عواصم العالم الكبرى، وإدارات المرور فيه، كما تحتفظ بمؤشراتها في عظمة وثراء مباني السفارات والقنصليات ومواقعها ومساحاتها ومحتوياتها.. الخ، فضلا عما كان يتأهل به الارستقراطيون المصريون العاملون بالدبلوماسية المصرية من جوانب متعددة للتفوق الإنساني في المظهر، وأحيانا كثيرة في الجوهر أيضا.
بيد أنه فيما بعد الهزيمة العربية المدوية في ١٩٦٧ وعلى مستوى التوظيف الفكري والتوصيف القانوني والأداء السياسي والتفاعل اللحظي والإنتاج المهني فقد واجهت هذه الدبلوماسية أقصى ما يمكن من تعقد للمشكلات التي كان عليها أن تواجهها وأن تتعامل معها واصلة إلى حدودها القصوى، وهو ما جعل نظام السادات يفيق بسرعة إلى ضرورة الاعتماد المباشر والفوري على عناصر مدرسة ديبلوماسية حقيقية تنفض يدها من تداخلات وحسابات السلطويين والعسكريين وأهل الثقة لتعود إلى ما يمكن له وبه أن يكون منبعا حقيقيا لأداء مهني قادر على التعامل مع الحقائق، ومع القانون، ومع الواقع السياسي الدولي لتحقيق درجات كبيرة من المكاسب السريعة الكفيلة بتقديم كل ما يمكن تقديمه من شكليات أو جوهريات تكفل خدمة القضايا المصيرية.
وهكذا سرعان ما نفض السادات يده بهدوء من الضابط القديم محمود رياض الذي عاش مع قضية فلسطين منذ اتفاقات الهدنة في 1949، وتوجه إلى الدكتور محمد مراد غالب الطبيب الجراح الأستاذ الذي كان قد استقر سفيرا لمصر في موسكو (وصديقا لشخصيات سوفيتية كثيرة كانت ابنة ستالين من بينها) حتى بعد أن بطأ السلطويون والعسكريون خطوات صعوده، ثم محمد حسن الزيات المثقف وأستاذ الأدب العربي الذي تحول مبكرا إلى العمل الدبلوماسي ثم إسماعيل فهمي الدبلوماسي المحترف المتصل عن كثب بالمنظمات الدولية، ومع هؤلاء أشرف غربال وأحمد عصمت عبد المجيد ومحمد إبراهيم كامل ومحمد رياض وسميح أنور وعمر سري.. وفي القلب منهم جميعا أسامة الباز.
وفي ذلك الحين كانت عدد من مدارس الدبلوماسية العربية والإسلامية البارزة الآن قد سبقت في الالتزام بأطر محددة من خطوط التعامل القائمة على قرارات سابقة، وتوجهات ثابتة إلى الحد الذي أصبح معه من اليسير بالفعل أن يتم التنبؤ الصحيح بقرارات المسلمين والعرب في السياسة الخارجية، مع ترك مساحات معقولة لتعظيم الإسهامات أو تقليلها، وتوقيتات التحول من توجه لآخر.
وفي هذا الصدد كانت بصمات الملك فيصل القوية الذي ظل محتفظا بوزارة الخارجية حتى اغتياله، كما برزت كفاءات الخارجية السورية وطلائع التميز في الجزائر والكويت وماليزيا والعراق وقطر والإمارات والمغرب وتونس ثم تركيا وإندونيسيا جنبا إلى جنب مع تقلبات نيجيريا وباكستان وليبيا.
بيد أن الأداء الدبلوماسي الإسلامي عانى بصفة متصلة ومتجددة من آليات لولبية التأثير تعود إلى طبيعة القلق الاستعماري والصهيوني من كل تفوق إسلامي، وهي آليات بالغة الخبث بقيت بمثابة سبب مباشر لاستثارات غير معروفة التاريخ، وإن كانت لا تخرج عن نوازع التحريض والتربص المتكررين.
ومع كل هذا بل وبناء عليه فإنه يمكن للمحلل المنصف الآن أن يشيد (بثقة واطمئنان) بكثير من مظاهر التفوق المهني في الأداء الدبلوماسي لعدد كبير من الدول الإسلامية الفاعلة في محيطها وفي العالم، وهو أداء مكن الروح الإسلامية بسهولة من مجموعة من النجاحات المتوالية في السنوات الأخيرة، وقد تتوجت هذه النجاحات أخيرا بذروتها العالية من الحضور المؤثر في الأداء المصاحب لطبول الحرب في سوريا، والمتحكم فيه، وهي ذروة من نجاح دبلوماسي لا تزال غير مشهودة لكثيرين ممن لا يحبون رؤيتها.
وقد تجلى هذا النجاح المتوج على سبيل المثال في استمرار سياسات الأبواب المفتوحة حتى مع إيران ثم مع روسيا وهو ما أدى بهدوء ونعومة إلى ابتعاد الموقفين الإيراني والروسي عما كانا مندفعين إليه بالغريزة من توجه متسارع نحو مضاعفة التورط العسكري، والعمل على إثبات الذات بإبادة الآخرين، فاذا بالأداء الدبلوماسي المتعقل لمحور السعودية وتركيا وقطر (والذى تتوج بزيارة رسمية لموسكو قام بها أمير فطر) يفتح من آفاق التفاهم ما كان كفيلا بأن يوهن من الآثار المترتبة على الانصياع لأحادية الرؤية، أو المضي مع سياسة الشاطئين والعداوة الفاصلة عبر نهر الحدث.
وفي هذا الإطار لم يكن مفاجئا لي أن يزور الرجل الثاني في تركيا طهران لأن ما يجمع البلدين يفوق بمراحل ما يفرقهما، وما يواجهه البلدان من مشكلات مشتركة يفوق ما بينهما من نزاعات غير مشتركة.
ولا يزال قويا جدا في ظني أن أمام إيران فرصة ذهبية في أن تعيد منطلقات تعاملها مع أساسيات المشاكل التي تجدد النزاع بينها وبين العربية السعودية وغيرها من الدول السنيىة، ومن المستحب لإيران أن تحاول تقليل جذور الخلافات، وأن تبدأ في النظر إلى نفسها على أنها جمهورية إسلامية وليست حركة إسلامية، وأنها إسلامية وليست خومينية، وأنها وصلت الخامسة والثلاثين بالفعل لا بشهادة الميلاد وحدها. وباختصار شديد فمن واجب إيران تجاه نفسها -وهي قادرة- أن تتخلى عن كثير من المراهقة الفكرية لصالح الدبلوماسية الإسلامية بعد النجاحات المتكررة التي أحرزتها دبلوماسيتها الغربية.
أما العرب فإنهم بحاجة إلى أن يذكروا أنفسهم كل صباح وكل مساء بالحقيقة الكبرى في التاريخ، وهي أن أحدا لن يعطيك حقك السليب وأنت ضعيف، أو بسبب أنك ضعيف، ولكنه سيعطيك حقك أو يتفاوض معك حوله حين يراك قد انطلقت بالفعل إلى القوة. وكم من حقوق عادت لأصحابها بمجرد تجييش الجيوش.
تم النشر نقلا عن موقع الجزيرة نت
ولقراءة المقال على موقع الجزيرة.نت اضغط هنا
للعودة إلى بداية المقال إضغط هنا