تاريخ النشر : 24/1/2016
كأننا التاريخ وهو يستحضر هذه الأيام روح محمد رضا بهلوي شاه إيران، وقد تلاقت في العالم الآخر مع روح توأمه الأميرة أشرف التي توفيت منذ عدة أيام عن 97 عاما. يستحضر التاريخ روح الشاه الأشهر فيجده يتذكر الأربعة عقود الأخيرة من عهده، والتي تمتد منذ قيام ثورة 1952 في مصر وعودته لعرشه بتدبير من الأميركان، وحتى قيام الثورة الإسلامية في إيران.
ويجد الشاه نفسه فخورا بما حققه من إنجاز حضاري وتكنولوجي لا يزال مثمرا بفضل متانة نسبية في البناء العلمي والتعليمي الذي خطا فيه خطوات واسعة تميل لها الكفة تماما إذا ما قورنت بحال مصر التي دفن فيها والده، ثم قدر له أيضا أن يدفن هو نفسه فيها، وقدر له أيضا أن تكون إحدى أميراتها هي أولى زوجاته حين لم يكن قد بلغ العشرين بعد.
ويتأكد هذا الشعور بالفخر والرضا عند الإمبراطور محمد رضا حتى إن كان لا يزال ابنه أو ولي عهده يرى -عن حق- أن خصومه التقليديين من الملالي قد أفادوا من هذا التقدم العلمي (بما فيه النووي) بأكثر مما كان ممكنا له أو لوالده من قبله (أو لولده من بعده) أن يفيد، وذلك لسبب واحد يتصل بتضاعف حماس الملالي لما يعلنونه في ظل تصاعد عداوات يستجلبونها ليسددوا بها -بذكاء بالغ- استحقاقات داخلية في الغالب، وخارجية في بعض الأحيان.
وإذا جاز لنا أن نمضي في تأمل المسارات البديلة للتاريخ، فإننا نجد ما يسمى بالشرق الأوسط في أعقاب الحرب العالمية الثانية يتخذ موقفين متناقضين مما وصف بأنه فكر (أو تفكير) بريطاني الأصل، مع ما في هذا الوصف من اختزال خبيث أو مقصود للقومية والوطنية معا؛ ذلك لأن مجموعة الدول العربية المستقلة أو المتحققة الوجود في مصر وسوريا والعراق والسعودية واليمن وشرق الأردن ولبنان، تقبلت فكرة جامعة الدول العربية بقدر أكبر بكثير من تقبلها لأحلاف إقليمية مفيدة ومنطقية أكثر اتساعا، كحلف بغداد أو حلف حيدر آباد… إلخ.
ولم يكن هناك في الواقع مبرر اقتصادي أو اجتماعي لمثل هذا الموقف المتناقض إلا تصاعد ذروة الحماس المصطنع لتوظيف فكرة القومية العربية لمصلحة توازنات أخبث منها، على نحو ما تم توظيفها في نهاية الحرب العالمية الأولى للحيلولة دون وجود أو تطور فكرة الخلافة الإسلامية إلى صورة عصرية تقابل أو تناظر ما حدث مع الممالك والإمارات الأوروبية في العصر الحديث، بعد أن خاضت فرنسا تجاربها الجمهورية المتكررة والمتعاقبة بظلالها المريرة، وبعد أن خاضت ألمانيا تجارب إعادة التشكل، وبعد أن نجح النموذج الأميركي في الحفاظ على ما سمي بحالة الاتحاد التي استنقذها (بديلا للتشرذم) لقارة كبيرة بحروب عنيفة الطابع عفية النصر.
وفي مقابل هذا، كانت هناك تجربة روسية في التمدد والتوسع تحت راية مذهبية عابرة للقوميات نسبت نفسها للتجمعات أو السوفييتات، بل متخذة من مصطلح السوفييتات اسما لإمبراطورية شاسعة كان من الصعب عليها أن تعمر وأن تبقى، ومع هذا فقد عاشت عدة عقود لاهثة وملهثة لنفسها ولغيرها.
ولم يكن ممكنا لدعاة القومية في الشرق الأوسط أن يفهموا، ولا أن يصرحوا بأن دعوتهم لن تصنف عند الاستعماريين (القدامى والمحدثين على حد سواء) إلا على أنها بديل أقل خطرا، وبالتالي أكثر قبولا من الإسلام الذي هو السبب الأعمق في صعود القومية العربية، ولا نقول وجودها ولا صمودها فحسب.
ومع هذا فقد استنام الغربيون ومعهم العروبيون إلى فكرة أن عربان الثالث (وهو اسم رمزي للجيل الثالث من حكام عرب في قومية إسلامية ما) أفضل من عربان الأول (وهو أيضا اسم رمزي للجيل المؤسس من حكام عرب في قومية إسلامية ما)، بيد أن العامل الإيجابي والمفيد للعروبيين -والذي لم يحسب الغرب حساباته- كان غريبا جدا على النظريات الاجتماعية والسياسية الحاكمة للتفكير الإستراتيجي السائد في تفكير المدنيات الغربية الحديثة.
وقد تمثلت هذه المفاجأة المذهلة في أن فكرة القومية العربية صبت في النهاية في سبيل توكيد الهوية الإسلامية وليس في سبيل استبدالها أو إضعافها أو القضاء عليها، وهكذا تحول فكر أصحاب المبادرة إلى البحث عن طريق جديد في مخاتلة المارد الإسلامي وموارده غير المنظورة.
ومن الملاحظ للكافة أن طريقة البحث عن الاختلاف في الإسلام والبناء عليها لا تزال تمثل فكرة منطقية في بعث وتأجيج الخلافات القاتلة في داخل الأرض الواحدة (أو في داخل حدود السيادة التي صيغت الخريطة العالمية الحالية على أساسها)، ومن باب أولى فإن هذه الفكرة أو الأسلوب تصبح كفيلة بخلق النزاعات الإقليمية ومن ثم الاستثمار فيها، لكننا نظلم الحقيقة إذا قلنا إن الاستعمار بنى جزءا كبيرا من نجاحاته في الماضي على استثمار الخلافات من خلال ما عرفناه اختصارا بسياسة: “فرق تسد”، ذلك لأن الخلافات نفسها كانت أكثر من مشجعة على الاستثمار، والاستثمار المتكرر من ناحية، ومن ناحية أخرى فقد حظي “التحكيم الاستعماري” نفسه في هذه الخلافات بكثير من القبول في حالات متعددة، بل إنه حسم كثيرا من القضايا بمنطق سليم ربما نفتقده الآن.
ومع أن الشرق الأوسط يبدو بمثابة مستودع للانفجارات الجاهزة، فإننا لا نستطيع أن ننفي أن رصيده من الخبرات الإستراتيجية والخيارات العملية بات متفوقا، وهو ما تدعم وتعمق بشدة غير مسبوقة من خلال رؤية وتأمل الآثار الحتمية للتخاذل الدولي في قضية فلسطين عبر سبعين عاما، أو للتواطؤ الغربي في السكوت المستمر على جرائم الانقلاب العسكري في مصر عبر ثلاثين شهرا.
ربما كانت خبرة الشهور الثلاثين المرئية أعمق تأثيرا من خبرة السنوات السبعين التاريخية، فقد عاشها المعاصرون جميعا بحواسهم كلها في عصر الإعلام الجديد بسطوته البالغة في إضاءة الحقيقة ونفي التزييف.
وقد بلورت هاتان الخبرتان مواقف حاسمة جعلت أطراف النزاعات الحالية في اليمن وليبيا وسوريا ولبنان وإيران أقل استجابة لما هو معهود من معسول القول وعمومياته في النزاعات التي تنتدب لها الأمم المتحدة من يتولى تخدير مظلوميها لمصلحة القوى العظمى أو لمصلحة من يحظون معها بعلاقات أوثق من علاقات الأطراف المتنازعة الأخرى.
وعلى سبيل المثال الصارخ في تناقضاته، فإن الإدارة الأميركية التي بدأت تدعو لتقييد حيازة مواطنيها للسلاح، لا تستطيع الآن أن تفكر بأمل كبير في جدوى إقناع اليمنيين أو الليبيين بمثل هذه الفكرة بعد كل ما أصبحوا يرونه من القتل على الهوية في عاصمة كبيرة مثل القاهرة، مع تغاض أميركي وغربي تامين عن فظائع هذه الحوادث إذا كان ضحاياها من الإسلاميين، في مقابل استنفار تام أممي وغربي في الحالات الأخرى.
وليس سرا أن مجتمع القضاء في مصر -وهو مجتمع عريق ومتمرس- بدأ يفكر في هدوء وبعمق في حدود فلسفة وممارسة التجرد والولاء، بعد ما رأى قضية مقتل النائب العام نفسه تمضي لمدة طويلة في نفق لم يعد مجديا أن تخرج منه مهما كانت المعجزة الإعلامية أو العلمية التي قد تحاول في سبيل إخراجها من النفق.
يأتي النزاع الإيراني السعودي اليوم في هذا السياق الظاهر ليضع الطرف صاحب الاستنفار الأعلى -الذي هو إيران- في مواجهة الحقيقة القائلة إن حكومتها دون غيرها ومعها جناحها العسكري غير التقليدي (الحرس الثوري) هي التي مضت بعيدا في الانتصار بالدم للتوجهات المتحالفة معها أو المدفوعة منها في سوريا واليمن، مع تصريحات مواكبة تستشعر الفخر بالنشوة الإيرانية من طول ذراعها الفاعل في مقابل ما تصفه هي بطول ليل الآخرين أو تخاذلهم.
ويأتي هذا النزاع من ناحية أخرى ليورط نفسه -عن “استسهالية” وانتهازية غير محسوبة- في تحالف إيراني مع روسيا لا يجلب لأذهان المسلمين إلا كل ذكرى مؤلمة لكل ما حاول المسلمون تجاوزه من أدوار غير إنسانية قام بها السوفيات في مواجهة جموع الشعوب الإسلامية في الهند وباكستان والصين وبورما وأفغانستان والشيشان والبوسنة وكوسوفو وتركيا وتنزانيا… إلخ.
وقد كان الخطير في الأمر أن ما تسمي نفسها الجمهورية الإسلامية في طهران، أخذت تنزلق بكل نعومة إلى تحالف مع الشيوعيين ضد المسلمين، وهي خطيئة شعبية لم تقع فيها حكمة الدول العربية الحريصة على صبغتها الإسلامية طيلة أكثر من ثمانين عاما، على الرغم مما قد يثار في وجه مناصريها من انتقاد صريح وقوي لدعمها لبعض الطغاة المسلمين ضد أغلبياتهم المسلمة.
ومع أن إيران -من ناحية ثالثة- تتمتع بنفوذ فعال في وسط نخبة إعلامية عربية مؤثرة، فإن هذه الأقلام المحنكة المتمرسة فشلت حتى الآن في أن تحمي إيران من حالات التوحيد والضم في الهجوم المكثف على سلوكياتها الإستراتيجية والسياسية.
ولا شك في أننا جميعا نعرف أن الصحفيين والكتاب العرب لا يزالون يفرقون بين الصهيونية واليهودية، ويتحسسون ألفاظهم حين يقتربون من هذه المنطقة الحساسة في نظرهم، لكننا في المقابل نجد إيران الحالية، وهي لا تكاد تحرك ساكنا حين توصف بثماني صفات مختلفة ومتباينة لكنها أصبحت في عموميات العقل العربي الجمعي وكأنها مرادفات معبرة عن شيء واحد، رغم أنها ليست كذلك.
ومن الطريف أنني أثير هذه النقطة منذ أكثر من ثلاثة أعوام من دون أن تعنى إيران الرسمية -بأية صورة من الصور- بأن تفرق بين صفاتها الفارسية والقاروشية والعجمية والمجوسية والصفوية والشيعية والشاهنشاهية والإيرانية.
يمكنكم الاستماع إلى المقال عبر قناتنا الصوتية من هنا
تم النشر نقلا عن موقع الجزيرة نت
ولقراءة المقال على موقع الجزيرة.نت اضغط هنا
للعودة إلى بداية المقال إضغط هنا