تاريخ النشر : 2004/5/1
أبدأ رثائي لمحمود مرسي بأن اشير إلي أن هذا الفنان العظيم ترك بريطانيا والإذاعة البريطانية البي بي سي بكل مجده فيها عندما حدث العدوان الثلاثي علي مصر في29 أكتوبر1956, أصر وهو وزميله وصديق عمره الأستاذ الدكتور محمد زكي العشماوي ومعهما كثيرون من المخلصين علي أن يظهروا احتجاجهم في الصورة التي يدفعون ثمنها من وظائفهم.. هكذا ظل محمود مرسي يدفع الثمن من جهده ومن مجده علي حد سواء, فقد كان هذا الفنان العظيم شخصية جبارة عملاقة صاحبة فكر ورأي, وقد عبر عن رأيه وفكره من خلال ادواره التي لعبها باقتدار وانتقاها باخلاص.
وكان محمود مرسي واعيا كل الوعي لما تجره عليه اراؤه الجريئة, لكنه كان أكبر من أن ينافق سياسة أو مجتمعا أو اتجاها من الاتجاهات, كان بحكم تربيته الفاضلة وقيمه الرفيعة وثقافته الواسعة قادرا علي أن يدرك حقيقة الدور الذي لابد لمثله أن يلعبه, وكان يعرف أنه ليس فردا في فريق المنشدين وانما هو قائد الاوركسترا في بعض الاحيان, وعازف منفرد منفرد في احيان أخري, ولم تكن مصادفة أن يؤدي محمود مرسي دور الأستاذ عباس محمود العقاد في المسلسل الذي صور حياة ذلك العملاق واذيع منذ ربع قرن لكن اثره لايزال باقيا في وجدان من استمتعوا بمشاهدته, وهو المسلسل الذي لم يعرض الا مرة واحدة,
كان محمود مرسي يجيد التمثيل كما كان يجيد التجسيد, كما كان يجيد التشخيص, وقلما اجتمعت لاحد من فنانينا هذه القدرات الكبار بنفس الدرجة من التجويد في كل واحدة منها كان إذا لعب دورا محددا أضاف عليه من عبقريته وادائه حتي لانكاد نتصور احدا غيره يمكن له أن يؤدي الدور نفسه, وكان إذا اراد التعبير عن قيمة من القيم التي تتمثل في بشر من البشر فاق تصويره لها كل ماتراه اعيننا في الواقع الحي, وكان إذا اراد ان يتحدث بضمير الغائب حول الغائب إلي حاضر حتي لنكاد نحس أنه أمام اعيننا جهرا نهارا, وفي الاعوام الأخيرة استسهل أهل الفن أن يضمنوا ادواره بعض مونولجات طويلة يختصر بها التعبير عن معان يصعب تصويرها الا في وقت ممتد, ولم يكن ممكنا لغير محمود مرسي أن يتقبل مثل هذه الفكرة ولا ان يؤديها علي هذا النحو من الاتقان والتمكن والتفرد.
كان محمود مرسي ضميرا في مجتمعه الذي كان يئن في لحظات كثيرة وهو يبحث عن ضمير يعبر في عمل فني عن حياة لاتزال تنبض في وجدان شعب مؤمن بالله وبالوطن وبالحق وبالقيم العليا, ولهذا أدي محمود مرسي ادوارا متعددة عمقت من احساس الوطن والمواطنين بكل القيم الرفيعة والنبيلة وكان محمود مرسي دارس الفلسفة واعيا لحقيقة ان الغاية من الفن ارفع من أن تكون تصوير الفنان في موضع رفيع أو في صورة جميلة, ولهذا تقبل اداء ادوار الشر التي تجلب له الكراهية مضاعفة لكنها في المقابل كانت كفيلة بأن تنجي المجتمع من الوقوع في أسر القوالب الخاطئة والمغلوطة في السلوك والسياسة.
بدأ محمود مرسي حياته في مدرسة أجنبية, وقادته فطرته السوية وتربيته الوطنية إلي مزيد من حب الوطن, ودرس الفلسفة فازداد حبا للمعرفة وغراما بالعلم في جميع صوره, وكان يفهم الفن علي أنه علم في المقام الأول ومن أجل هذا العلم سافر إلي باريس حيث درس وتخرج, ووجد الفرصة أمامه علي صعيد عالمي فعمل في لندن بعدما درس في باريس وبعدما بدأ دراسته في مدرسة إيطالية وهكذا كان محمود مرسي جامعا لأطراف ثقافات عالمية عن عمق وعن تمرس.
بدأ حياته بالاخراج وكأنه وجد نفسه علي حين فجأة يعاني من أن افكاره في تكوين الصورة لاتجد من ينفذها علي نحو ما يحلم أو علي نحو ما يشتهي فآثر أن يقوم بالأمر بنفسه وان يمثل, وهكذاك بدأ محمود مرسي ممثلا عملاقا متمكنا قادرا علي أن ينقل الخلجات وأن يصور السكنات وأن ينطق الايماءت وان يحرك الجمادات, وكان مع هذا أستاذا يحيط تلاميذه بحبه وحدبه وبتوجيهه قبل توبيخه وبالمثل الذي يرسمه قبل الصورة التي يطلبها, وهكذا مارس محمود مرسي الاستاذية الأكاديمية دون استعلاء فأثر في اجيال كانت تفتقد من كانوا في قدره وقدرته, وبقي اثره أكثر من هذا في أعماله التي ستظل علي مدي السنوات بمثابة نموذج للابداع والتفوق والتجويد تستلهم منها عظمة الفنان وصدق الوجدان وقيم الاتقان.
للعودة إلى بداية المقال إضغط هنا