تاريخ النشر : 2015/10/14
ليس من حقنا أن نتجاوز تذكير القارئ بأن الولايات المتحدة الأميركية كانت الأكثر حماسا لتأسيس المنظمة الدولية الحالية، وأن اجتماعات التأسيس تمت في سان فرانسيسكو، وأن الولايات المتحدة لعبت من فوق المنضدة ومن تحتها بدأب واجتهاد ليكون مقر الهيئة الجديدة في الولايات المتحدة الأميركية لا في أوروبا.
وأن المليونير الأميركي روكفلر -بكل ما يمثله- منح المنظمة الدولية مساحة الأرض المتميزة التي تم بناء مقرها عليها، وأن الولايات المتحدة الأميركية ظلت حريصة على إعطاء تلك المنظمة البديلة لعصبة الأمم كثيرا من حقوق الشرعية والتأثير والنفوذ والتقرير والفصل والتوفيق في حل النزاعات، واستكشاف الأبعاد المتعددة في النزاعات الإقليمية والدولية على حد سواء.
لكن الولايات المتحدة الأميركية شأنها شأن كل ديكتاتور دولي تاريخي بدأت تتململ من الأمم المتحدة عندما ازدادت درجات الوعي الدولي بالحقوق المشروعة في التطلع للتقدم واستقلال القرار.
|
وقد بدأ هذا التوجه يظهر بثقة منذ أوائل السبعينيات من القرن الماضي بسبب التراجعات الأميركية في فيتنام وغيرها، لكن الولايات المتحدة الأميركية في ذلك الوقت كانت لا تزال تدرك مدى سحر المعني الحقيقي للواقعية والعدالة لا المعنيين المزيفين لهما، ولهذا فإنها سارعت بذكاء أقلق السوفيات والأوروبيين إلى أن تكون هي الآخذة بيد الصين الشعبية إلى حقها الطبيعي في المقعد الدائم، الذي كانت تشغله حكومة شبه انقلابية أميركية في ما يسمي الصين الوطنية: فرموزا.
ولم تعر الولايات المتحدة الأميركية بعقليتها المفكرة في تلك اللحظة أي التفات (أو أهمية) لتلك المعادلة البسيطة التي تنبه في سذاجة إلى أن حظ القوى الشيوعية سيرتفع بهذا التصرف من 20% إلى 40% من قوة الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن، فقد كانت الولايات المتحدة الأميركية مقتنعة بأن المسألة محسومة بالفيتو الذي كان يمنحه لها مقعدها، مما يحقق بلغة اليوم “الخمس المعطل”، وهو ما حدث بالفعل وبقسوة على مدار تاريخ تلك الحقبة من الزمان التي لا تزال تشهد تعطيل ذلك الخمس لكل قرار يحاول أن يلفت نظر إسرائيل (مجرد لفتة نظر) إلى الإنسانية المعذبة والمعانية والممتهنة على يديها.
تطورت الأمور إلى توجه آخر بحكم ما هو معروف من ميل الولايات المتحدة الأميركية الوراثي إلى الملل بأكثر من ميلها للتجديد، وبحكم رغبة عارمة في إقحام عوامل جديدة (مخلقة صناعيا أو معمليا) على مسارات الصراع الاجتماعي والسياسي والديني، وقبل هذا وذاك بحكم رغبتها في البحث عن لاعب دولي يحل محل السوفيات في الثنائية التقليدية الشهيرة التي كانت الولايات المتحدة الأميركية أسعد الناس بها، ومن العجيب أن القوى الخمس التي حاولت الولايات المتحدة الأميركية جرجرتها لهذا الدور لم تبد أي نوع من أنواع الترحيب بهذه الفرصة المتاحة، وهو ما يمكن تلخيصه في خمس عبارات قصيرة:
– فأوروبا كانت قد بلغت من النضج حدا لا يسمح لها فسيولوجيا ولا سيكولوجيا بممارسة المراهقة السياسية التقليدية التي لم تعد تليق بها ولا بشعوبها ولا مجتمعها المدني.
– والصين وجدت سرا بسيطا يتمثل في أن “التفاني في الاقتصاد يحقق من النصر أضعاف الفناء في الحروب”.
– والعالم الإسلامي بقيمه وجد بدون تفكير طويل أن المصيدة لا تقود إلى مصعد وأن دخول المصعد مباشرة أنسب له وأجدى من دخول المصيدة الأرضية.
– واليابان كانت قد بلغت من التسامي الخلقي الجماعي درجة لا تسمح لأي من سياسييها أن يخدع نفسه لينتهي الأمر به إلى ما هو ضروري من الانتحار المبكر.– أما روسيا الجديدة التي تعاود محاولة الانبعاث (أو الخروج) من رماد الدولة السوفياتية الطاغية على النحو الذي تقول به الأسطورة المعروفة،
|
فإنها تقارن بين رغد الاستقلال وذل التوسع، فتؤثر برهافة العصر ورفاهيته أن تتمتع بشياكة القطع الصغيرة على الترهل الملازم لضخامة الأوهام.
ومن الحق أن نعترف بأننا لا نستطيع أن ننتقل من هذه الفقرة دون أن نشير إلى أن الولايات المتحدة الأميركية لا تزال تحاول في هذا الطريق عبر قناتها السادسة المحتملة، متمثلة في أي من أسمائها متعددة الظلال: فارسية وإيرانية وعجمية ومجوسية وطاووسية وشاهنشاهية وشيعية وصفوية وخومينية, وإن كانت الظروف قد أقنعتها بالكف عن مواصلة النفخ في ما تمثله كوريا الشمالية.
ومع كل هذه الحقائق الواقعية، فإن الإبداع الفني في الإستراتيجيات الأميركية بدأ يفكر في اتجاهات مبتدعة وغير مطروقة لإدارة العالم “بالريموت” الأميركي بعيدا عن المنظمة الدولية من ناحية، والمنظمات الإقليمية أيضا، وبعيدا عن السيادة الوطنية من ناحية أخرى بالقدر ذاته، وبعبارة رجل الشارع البسيط فقد قررت أميركا ألا يكون قرار العراق (مثلا) بيد الرئيس العراقي، ولا بيد الأمم المتحدة، ولا بيد الجامعة العربية، وأن يكون بيد “الفقيه الوالي” الجالس بين قم وطهران على ألا يكون لهذا الفقيه الحرية في التصرف إلا في حدود “الكتالوج” الأميركي، ومن خلال توريد قطع الغيار المعتمدة أميركيا.
وقل مثل هذا (على سبيل تقريب الفكرة) بأن يكون قرار اليمن بيد عمان العاصمة أو عمان الدولة، وأن يكون قرار مصر بيد تل أبيب، وأن يكون قرار ليبيا بيد باريس، وهو ما يتوافق مع ما هو مسموح به تجاريا من أن يكون التوكيل في عاصمة ما ليس من الضروري أن تكون هي الأكبر ولا الأعظم.
ببساطة شديدة يدركها رجل الشارع بأسرع مما يدركها أساتذة السياسة، فإن السياسة الأميركية تريد أن تدير المنظومة الدولية على طريقة الوكالات التجارية المحتكرة للصيانة والتوريد، وهو ما يناظر في الممارسات السياسية تسيير ومعالجة أمور السيادة والحكم.
يترافق مع إقرار الإستراتيجية الأميركية مبدأ الأخذ بفكرة الوكالات التجارية في السياسة مبدأ آخر يقتضي بوضوح وصراحة تحطيم روح الأمم المتحدة، ومن باب أولى تحطيم كيانها ووجودها، والمبرر التجاري المنطقي موجود سلفا، فإن سياسيا محليا مثل أوباما (أو سلفه) يقول لنفسه: ما دخل البرازيل بمشكلات الشرق الأوسط إلا أن يأتي يوم نطلب منها فيه قوات تندرج تحت ما يسمى القوات متعددة الجنسيات؟ وما قيمة إندونيسيا أو ماليزيا في مشكلة أوكرانيا؟
وهكذا تنسف الولايات المتحدة الأميركية بالتقويض (التقويض بالقاف أي باللعب في الأساسات) وبالتفويض المتدرج فكرة الأمم المتحدة والمجتمع الدولي إلى ما تظنه نقطة اللاعودة.
|
مضت الولايات المتحدة الأميركية خطوات واسعة في هذا الطريق منذ تحالف بوش الأب لإخراج صدام من المعادلة ومن الكويت في الوقت ذاته، وهو إخراج تكفل تلقائيا بخروج العرب من نقطة الأمل في الاتفاق، كما أنه أنهى حياة الجامعة العربية، وإن لم ينه وجودها كجسد ميت له مقر كالهرم شموخا، وله صوت قابل للانبعاث مع نفخة الروح المنطلقة أو المنتظرة.
ثم أضاف كلينتون الذكي بعدا عميقا إلى هذا النجاح بما حققه في البوسنة، ثم أضفى كل من جورج بوش الابن وأوباما روح الشر على هذه “الأمركة” الجديدة، وفي حقبة بوش الابن بدت روح الشر زاعقة فاقعة، أما في عهد أوباما فقد بدت واهنة حائرة، لكنها للأسف الشديد كانت لسوء حظ الإنسانية أعمق شرا وأفظع خباثة وتعصبا.
عن قريب، تبدأ الولايات المتحدة إعادة تقييم الجدوى هناك وهنالك، بعدما وجدت نفسها أمام ما لم تتوقعه للربيع العربي من أصداء مضيئة وإشراقات بازغة على الرغم مما استماتت به من أجل إعاقته عن طريق تعزيز الثورة المضادة وبعث الانقلابات العسكرية، يقلقها أن الشارع يواصل اليقظة حتى في الليل، وأن رموزا كثيرة تخدمها تسقط بسهولة، وأن روح الانخداع تتلاشى، وأن التململ من سوء السلوكيات الأميركية لا يفتأ يتسع باستمرار ولا يتراجع.
يقلق الروح الأميركية أن الأجيال الصاعدة أشد عداء للولايات المتحدة الأميركية وللفكرة الإمبريالية بأكثر مما كان يتخيل أي دارس أو باحث أو مراقب، لكنها في الوقت نفسه تريد أن تختبر أسلوب توكيلات الشركات الكبرى، لكنها لا تزال تغفل عن جهل ثلاث حقائق حاكمة لم يتح لها حتى الآن أن تدرك جوهرها:
– أولى هذه الحقائق تتمثل في أن المسجد في الإسلام ليس هو المبنى فحسب لكنه مكان السجود وموضعه، ومن ثم فإنه في قلب كل مسلم (أو شبيه المسلم)، مسجده الذي لا يخضع لفكرة ومنطق التوكيلات التجارية، ومن العجيب أن هذه الحقيقة لا تنطبق على أهل السنة فحسب، ولكنها تبزغ أيضا عند كثير من الشيعة والقاديانية والبهائية والدروز وحتى السيخ والصابئة والسامرية!! وربما يفاجأ أعتى خبراء الولايات المتحدة الأميركية بهذا عن قريب.
– ثانية هذه الحقائق أن كثيرا من المسيحيين العرب يتفوقون على كثير من المسلمين في تجذر وتعمق انتمائهم للإسلام: حضارة ودولة وتاريخا، وهي حقيقة لن تتوقف صدمتها للولايات المتحدة الأميركية عند عدم التصديق فحسب، لكنها تنسحب إلى ما هو أعمق، وهو عدم القدرة على التصديق.
– ثالثة هذه الحقائق أن العالم الإسلامي كله (سواء كان معاديا للغرب أو مواليا له) لا يقيس موقف الولايات المتحدة الأميركية والغرب من الإسلام إلا بترمومتر واحد هو موقف الغرب من القاهرة ومن فيها من حكام (مغتصبين كانوا أو متغلبين أو محبوبين) مهما كانت القاهرة نفسها واهنة أو مغيبة، راضية أو رافضة، مروضة أو مرفوضة.
يمكنكم الاستماع إلى المقال عبر قناتنا الصوتية من هنا
تم النشر نقلا عن موقع الجزيرة نت
لقراءة المقال على موقع الجزيرة.نت اضغط هنا
للعودة إلى بداية المقال إضغط هنا