لست في حاجة إلى وصف استشراء الظاهرة،فإن كل وصف لما يحدث الآن يأتي أبسط من الحقيقة المؤلمة…وقد أصبح الطلاب بأنفسهم يعانون من بطء بعضهم في الغش ،بل ويعانون من أن الذين يتولون وضع الإجابات النموذجية التي تملى عليهم يخطئون كثيرا…ومع هذا فإن مناخ النظرية العجيبة المسماة بنظرية التفوق للجميع لا يزال يفرض نفسه في أحاديث المجتمع المصري المعاني من التربية والتعليم ونتائجها على حد سواء.
لست في حاجة( ثانيا ) إلى أن أصف مدى معاناة المسئولين عن التربية والتعليم وعلى رأسهم الدكتور الوزير نفسه،ولا إلى مدى معاناة المحافظين ومديري الأمن وجهات أخرى عديدة بها أجهزة أمن الدولة،من أجل تحقيق أي نوع من الضبط أو الربط دون جدوى.
ومع هذا فإني أعتقد أن المشكلة أبسك بكثير من صورتها الراهنة،وفي وسع القائمين على وضع الامتحانات أن يضعوا امتحانات غير قابلة للغش على الإطلاق،وفي وسع التربويين استئصال هذه الظاهرة للأبد ,وليس من الإعجاز أبدا أن توقف هذه المهزلة بأقصى سرعة.
ومع أن مقالا صحفيا ليس بالمجال الأنسب لمناقشة آليات وضع الامتحانات من أجل القضاء على الغش ،إلا أني أستطيع أن ألخص للقراء بعض هذه الآليات :
- إذا وضعنا السؤال موجها إلى طريقة الكشف عن التفكير فإنه يصعب على المتقدم للامتحانات يتلقى الإجابة عليه عن طريق الإملاء…وربما يحتاج هذا إلى أن تكون أوراق الأسئلة من النوع الذي يرتد للجان الامتحانات كأوراق إجابة حيث يسجل الطالب فيها إجاباته المطولة التي تعتمد في بعض الأحيان على إشاراته إلى مواضيع محددة من ورقة الأسئلة لأن في هذه المواضيع استكمال الإجابة نفسها…كأن تكون المقدمات والنتائج مكتوبة بطريقة غير مرتبة ويطلب من الممتحن أن يرتبها…وهكذا.
وخذ على سبيل المثال فرن صهر الحديد لو رسمناه للطالب وتركنا له مواضع محددة يبين عليها أسماء أجزاء الفرن…وأخرجنا مجموعة أسهم من الرسم ليسمى بها الطالب العمليات الكيميائية التي تتم ( كالأكسدة أو الاختزال ).
وأخرجنا مجموعة أسهم أخرى لمواضع أخر وسألنا فيها عن التعليل العلمي لحدوث ماحدث وقل مثل هذا في الخرائط الصماء والخرائط التاريخية…الخ .
وكل هذه الأساليب ممكنة وكفيلة تماما بالقضاء على الظاهرة المحيطة والمدمرة.
- ابتدع العالم منذ فترة طويلة بنوك الامتحانات الكفيلة بتقديم أسئلة متعددة ومتناظرة من نفس مستوى السؤال المتاح.
وبهذا يمكن توزيع 5 ورقات امتحانية مختلفة تماما على الطلاب دون أن يمكن للقراصنة تعميم الإجابة ،لأن هناك في كل جزئية 5 أسئلة مختلفة،بل أنه يمكن بطريقة أخرى وضع الأسئلة نفسها مع اختلاف ترتيبها بحيث يكون السؤال الأول في نموذج الامتحانات الأولى هو السؤال الثاني في النموذج الثاني،وهو الثالث في النموذج الثالث ،وهو الخامس في النموذج الرابع،وهو الرابع في النموذج الخامس بحيث يستحيل على أية قوة منظمة للتسريب أن تحيط علما بالشفرة العشوائية لتوزيع النماذج المختلفة من الأسئلة الموزعة إلا بعد مرور وقت لا يقل عن نصف وقت الامتحان نفسه.
- من الآليات القديمة لوضع الأسئلة أن تستغرق الإجابة عن الأسئلة أكثر من الوقت المتاح حتى لو كان الممتحن عبقريا،وهذا لا يضر في شيء لأنه يسري على الجميع حتى أن أكفئ الطلاب سيظل هو الأول حتى لو لم يجب إلا على 90% أو 85% من الأسئلة.
- وقديما كان التربويون يقولون إن جودة السؤال يكزن من جملة وأن تكون الإجابة من صفحة،على حين أن رداءة السؤال أن يكون من فقرة وأن تكون إجابته في كلمة ،ولست أحب أن اتهم الامتحانات التي تتم الآن بأنها من النوع الرديء.
- ليس من الصعب على مقدري الدرجات اكتشاف أن الممتحن غشاش من طريقة إجابته ،ومع أن بعض الحالات تحتمل الاتهام بنسبة50% إلا أن هناك حالات من الإجابة لا تحتمل أي تفسير إلا انها تمت عن طريق الغش ،والمطلوب هو إعطاء سلطة عاقلة للجنة خماسية من رؤساء لجان تقدير الدرجات تقرر على الفور حرمان ورقة الغشاش من التقييم متى اكتشف المقدرون شبهة الغش في الورقة.
ومن فضل الله أن الغش شأن كل الجرائم يستبقي معه أثرا من الآثار الدالة عليه،على نحو ما يقال من أنه لا توجد جريمة كاملة أبدا.
تاريخ النشر : 20/08/2000
جريدة: الأخبار
للعودة إلى بداية المقال إضغط هنا