ها نحن أولاء تلاميذ الطاهر مكي وأحباؤه ومريدوه وعارفو فضله وقراؤه نسعد اليوم بعالمنا الجليل وهو يناهز التسعين من عمره المديد،ونحن نراه قامة وقيمة،وعلما وعلامة على كل ما هو جميل في الأدب،وكل ما هو راق في النقد،وكل ما هو دقيق في الدراسة الأدبية،وكل ما هو رقيق في العلاقات الإنسانية وكل ما هو قدوة في الحياة الجامعية.
ولهذا كله تجتمع أفئدتنا على تقدير أستاذ عاش الحياة الجامعية رمزا للعطاء المتصل في الجامعة وخارجها في تخصصه وفيما يتعلق به،وسعي من خلال معرفته الراقية بلغته العربية وبالإسبانية إلى تقديم أفضل صور التعاون المثمر مع الشعوب الإسبانية واللاتينية أستاذا ومترجما ومحاورا.
وقد حاور الحضارة من أجل أبناء قومه،وحاور الحياة من أجل الأدب،وحاور الأدب من أجل النقد،وحاور النقد من أجل الدراسة الأدبية ،وحاور الدراسة الأدبية من أجل التاريخ للأدب،وحاور هذا كله من أجل صياغة علم الأدب.
لم يقف الطاهر مكي في إنتاجه عند الحدود التقليدية وإنما اتخذ الدراسة الأدبية سبيلا إلى دراسة الحضارة والتعريف بالفنون الرفيعة في إسبانيا والمغرب.
كما اتخذ الدراسة الأدبية سبيلا إلى تعميق علوم النفس الدراسة للوجدان،وكان اختياره لنصوص الفقيه الأندلسي ابن حزم مضرب المثل لذكاء الأديب والناقد في استجلاء حضارة الإسلام الزاهرة التي وصلت مبكرا إلى آفاق إنسانية رفيعة درست الوجدان وتفاعلت معه وحاولت بالعقل أن تضع للقلب إشاراته وعلاماته وقوانينه،ثم كان له الفضل أن جعل دراسة الأدب في كليات دار العلوم والآداب والتربية والألسن تدور حول هذا النموذج من النصوص النفسية والحضارية الراقية.
كان رائدا في هذا الاتجاه من دون إدعاء ومن دون من،وكان ناجحا بفضل إخلاصه وفهمه وحبه لما يفعل ودأبه على الإنجاز.
وقد امتدت مقاربات الطاهر مكي للحضارة إلى الآداب الفرنسية التي درست تاريخ الفكر على أفضل نحو،ومكنته شجاعته الأكاديمية من أن يقدم للقارئ العربي والأكاديمي العربي ترجمة عالية القيمة لأفضل الدراسات في هذا الميدان.
وعلى صعيد ثالث كان استشراف الطاهر مكي لدراسات الأدب المقارن استشراف ذكيا،ولم يقف عند حدود الاستشراف لكنه صاغ بدراساته أسلوبا بديعا لاستكناه آفاق الدراسات الأدبية المقارنة،وكان سفره القيم في الأدب المقارن بمثابة النواة التي تشكلت حولها الجمعية المصرية للأدب المقارن.
ثم دفعه إخلاصه العميق لتراث الإسلام الأدبي أن يرتاد بحنكة وذكاء مجالا جديدا للدرس الأدبي لم يسبقه إليه أحد بهذا القدر من الموسوعية والإطلاع فجاء كتابه ” الأدب الإسلامي المقارن ” على نحو ما جاءت كتبه السابقة قطعة من الأدب الرفيع والفن الرفيع أيضا.
ومع كل هذه الإسهامات ظل الطاهر مكي متابعا يقظا لتجليات الفكر وإبداعاته ،وكانت كتاباته النقدية أبعد ما تكون عن التطبيق المباشر والمنفر للنظريات التي قد تفتن الشباب الأكاديميين حتى وإن بلغوا سنوات العمر المتقدمة.
لكن كتابات الطاهر مكي في النقد كانت في المقام الأول والأخير قطعة أدبية جميلة تضرب المثل في النقد الإبداعي الذي يحول الانطباع الدقيق إلى عبارة جميلة موحية قادرة على تكوين الانطباع عند قارئها.
وإذا كان شوقي ضيف وأحمد الحوفي وأضرابهما قد أجادوا دراسة العصور الأدبية فإن الطاهر مكي كان في الجيل التالي لهما أفضل من قدم العصور الأدبية من خلال أعلامها اللامعين وكانت دراساته أبرز نموذج لهذا النمط المتقدم من الدراسة الأدبية الذي لا يقف عند حدود تكوين الفكرة العامة عن العصور وإنما هو يتعدى هذا إلى تجليات الفكر المتباينة في إنتاج أبناء العصر الواحد مصرا بهذا تفاعل الفرد والجماعة في الإنتاج الفكري والإبداع الأدبي.
هكذا جاءت كتاباته عن امرئ القيس وعن شعراء الأندلس لتمثل درة من درر الدراسات الأدبية المعاصرة.
أما إسهامه الذي لم يلق التكريم المستحق حتى الآن فهو دراساته الموجزة عن إعلام عصره من الشعراء والأدباء ،ولا أظن أحدا وصل إلى ما وصل إليه الطاهر مكي من التعبير الذكي الرشيق عن الاستيعاب الجيد العميق لإنتاج من كتب عنهم،ولا شك انه استعان على هذا بذاكرته وذائقته وخبرته المباشرة ،لكنه حين استعان بهذا كان متمكنا من أدواته على نحو لم يتح بالقدر ذاته حتى لتلاميذه واللاحقين به من الذين شغلتهم لقمة العيش أو العمل في الجامعات العربية أو المناصب الإدارية عن ان يحيطوا بما أحاط به هذا العالم الجليل من تاريخ الأدب المعاصر وحقائقه.
ويكفي في هذا المجال أن أنقل للرجل فقرة من دراسته الجميلة عن إحسان عبد القدوس وأن أشير إشارة عابرة إلى فقرة مماثلة كتبها في دراسته عن الشاعر نزار قباني ،ولا أظن هذين الرجلين حظيا بتقدير نقدي مجمل كالذي قدمه لهما الطاهر مكي وهما الرجلان الذين لم يحظيا بالإنصاف النقدي الحقيقي على نحو ما حظيا به على يدي عالمنا الجليل،ولم يكن من المستطاع أن تقيم جهودهما في الإبداع والأدب على هذا النحو المنصف إلا على يد الطاهر مكي الذي امتلك قلما قادرا وذائقة منصفة وفهما أعمق للتاريخ والإبداع والفن.
كان الدكتور الطاهر مكي يرى أن إحسان عبد القدوس يمثل بين كل مبدعي عصره اتجاها متميزا أصيلا ومدرسة قائمة بذاتها،لا يمكن أن ننسبها إلى غيره،ولا تجد من يمكن أن تضمه إليها،ولو ان هذا لا يمنع بداهة من انه قرأ كثيرا في آداب مختلفة ،وتمثل ما قرأ جيدا،فجاء إبداعه فردا،يمكن أن تلمح فيه توافقات خافتة مع غيره،في الظلال أو المعالجة ،ولكنه يحمل طابعه ومذاقه وصناعته .
ويقول الدكتور الطاهر مكي إنه لا يجد كاتبا تصدق عليه مقولة ” الفن صورة عصره كما تصدق على أدب إحسان،فبين صفحات ما كتب تجد مصر المعاصرة كلها،في شتى صراعاتها وتناقضاتها الفكرية والسياسية والاجتماعية،في الريف والمدينة،بين العمال والفلاحين والموظفين،والأغنياء والفقراء،والشباب والشيوخ،والرجال والنساء على السواء،مصر كلها هناك في أدب إحسان ،تتزاحم في الشوارع والميادين،والمصانع والحقول،تعيش وتتحرك وتناضل،تنبض بالحياة والأمل،يتغشاها اليأس والإحباط لحظات ما،لكنها تتقدم نحو غايتها دائما “.
” هذه الحيوية الدافقة نجدها في كل ما كتب في الرواية، والقصة،والمقال، وإن اختلفت المعالجة طبقا لما تقتضيه متطلبات النوع الأدبي من تقنيات فنية،وفيها كلها نلتقي بالصدق الفني دائما،والواقعي معه في أحايين كثيرة ” .
وربما يعجب بعض من يقرأ الفقرة السابقة إذا كان على علم بقصة الدكتور الطاهر مكي في اكتشاف الأصل الفرنسي لقصة لا أنام.
ويصف الدكتور الطاهر مكي التفوق الذي أحدثه الزمن في فن إحسان عبد القدوس بطريقة ذكية فيقول :
” جاءت قصص إحسان عبد القدوس الأولى التي نشرها في مجموعتي ” صانع الحب “ و ” بائع الحب “ مجرد ذكريات لشاب يزور أوروبا ،وكتبها بأسلوب أقرب إلى الأسلوب الصحفي،حتى إنه كان يقطع سياق القصة ليصف بلدا ، أو يتكلم عن شخصية التقى بها،وفي مجموعة ” النظارة السوداء ” التي نشرها لأول مرة عام 1949 كان يقحم نفسه في السياق ليكتب مقالا يدافع عن فكرة أو يعرض رأيا”.
” وعندما نشر روايته ” أنا حرة ” 1952 جاءت تحقيقا صحفيا أكثر منها رواية أدبية ،وكان هذا عيبا خطيرا في تقنية القصة أدركه واعترف به فيما بعد،واخذ نفسه على تجاوزه والتخلص منه،وساعده على ذلك أن كتابة المقال العنيف المثير الذي يشد أعصاب القراء لم يكن متاحا بسهولة بعد أن تمكنت الثورة فوجد المجال فسيحا في القصة والرواية،وفي إسقاطاتها ورموزها ما يتيح له ان يعبر عن كل ما يريد دون خشية من ملاحقة أو مصادرة،فأقبل على كتابتها بجدية “.
” ومع المران والدربة والمثابرة والزمن أخذت شخصيته الأدبية تتطور وتنضج،وعيوبه الفنية تقل وتذوب،إلى أن أمتلك ناصية الفن الروائي كاملة ” .
ويشير الدكتور الطاهر مكي إلى هذه الخاصية التي صمم على أن يصف بها كتابات إحسان عبد القدوس الروائية من الارتباط الوثيق بالعصر فيقول :
” …فهو يكتب لعصره،ولا يفكر فيما سبق ،أو فيما سيجيء بعد،وإنما يصور أحداثا رآها فعلا،ووقائع عاشها،وأبطالا شاهدهم،وتعامل معهم،وتشعر في بعض قصصه برغم التخفي أنها تمثل تجربة ذاتية حقا،خبرها الكاتب فعلا،وكان بطلها واقعا ” .
تاريخ النشر : 11/03/2012
مجلة : أكتوبر
للعودة إلى بداية المقال إضغط هنا