هذا صديق كبير قدر له أن يشغل منصبا كبيرا لم يكن هو يتوقعه لنفسه،ولم يكن المقربون منه يتوقعونه له،ولكن أساتذته كانوا يقدرون فيه أنه لم يلوث نفسه بما يمكن أن يحجب عنه الرفعة أو أن يحجبه من الارتفاع والرقي مع الزمن.
ولم يكن صاحبنا على واسع ثقافته ،وتوسعه في القراءة ،وقدرته على الفهم والتحليل والتعمق،وتقبله للغرض والاستنتاج ،وتقديره للاستقراءات والاستنباطات،لم يكن مع هذا كله من أصحاب البصمات الواضحة في فكره ولا في سلوكه…فلا هو اشتراكي،رغم كرهه للرأسمالية التي تفرضها أمريكا على الشعوب لتظل هي صاحبة رأس المال والشعوب تستجديها…ولا هو انفتاحي ،رغم إيمانه بحكم عمله ومهنته بأهمية الانفتاح على الدنيا وإتاحة الفرصة أمام نظرية الأواني المستطرقة لينفذ منطوقها…ولا هو إسلامي النزعة في الاصطلاح الاجتماعي على الرغم من إيمانه بكل قيم الإسلام وإتباعه لها وصدوره عنها في تصرفاته وسلوكه…وهو أكثر الناس معارضة لفرض القانون بحذافيره ،مع انه يكره الاستثناءات ،وكرهه لها حقيقي لا خدعة فيه،وهو قد يتمادى في هذا فيزعم أن إلغاءها هو الطريق الوحيد إلى التقدم ( لا أول الطريق فحسب )…ومع هذا فإنه يؤمن شأنه شأن الأطباء أن كل حالة تستدعي روح القانون ولا تستدعي نصه.
وهكذا فإنك تجد الإدارات التي تخضع لإشرافه بين ناريين ،بين أن تتهم بالفوضى أو أن تسعد بأنها تسعد الناس ،ولا يحل هذا المشكل إلا النزوع الذي في شخصية من يتولى أمر الإدارة من هاتيك الإدارات.
وهو لهذا لا يمانع في أن يدع الواحد من مرءوسيه يرتفع إلى مناقشته في تأشيراته ، بل هو لا يمانع في أن يلغي وكيله تأشيراته مادام في ذلك سعادة الوكيل.
كبرت نفسه حتى عن الصغائر ،وأخذت تكبر وتكبر حتى أصبحت الكبائر عندهما صغائر ،فهو لا يحرك ساكنا أمام مخالفات كثيرة،بينما هو يبحث ويفكر ليجد السبب الذي قد يبرر به للمخطئ جريمته، وليس معنى هذا أنه مع المخطئ ،ولكنه يجري هذه العملية في عقله كما يجري العمليات الحسابية ،وقد مرن عليها ،وبلغت مهارته فيها الحد الذي جعله يجد لكل جريمة سببا مقنعا.
وهو لا يحب لنفسه أبدا أن تنهى أو تأمر ،وحسبه أن يكون موافقا أو غير موافق وهو قد يوافق على ما لا يرضاه،ولكن كل الذين يوقعون قبله في الهيكل الوظيفي قد وافقوا ،وهو عندئذ يضع توقيعه بالموافقة من باب أنه توقيع اعتماد كما يقولون في دواليب الحكومة،أي إقرار بصحة التوقيعات التي قبله ليس إلا.
وهو ينفق من وقته الكثير في ضبط أمور صغيرة ولكنها في باب العلم كبيرة ،والخطأ فيها كبير ،فإذا ما وصلت الأمور إلى الإدارة وما يتعلق بها من المال،فهو يتجاوز لأنه يعرف أن الناس في أيامه أصبحوا ضحايا ارتفاعات كثيرة ليس أكثرها ارتفاع الأسعار،وليس أقلها ارتفاع الأذواق في المأكل والملبس والمشرب.
وهو قد يبدي الرأي ونقيضه ،وقد لا يكون من الوقت بين الرأيين إلا دقائق ،وقد تعجب لهذا،ولكنك حين تخبر معدنه وتعرف أنه إنما يعبر عن النظرات المختلفة إلى الحقيقة تهدأ بالا .
ولهذا فهو صادق حين يتحدث عن هذا الجانب الواحد،وهو متناقض في الظاهر،حين تسمع بعد دقائق حديثه عن الجانب الآخر وأبلغ مثل على ذلك قوله في بعض الأحايين أن هذا البلد لن يجد بعد هذا قوت يومه ،ثم هو بعد فترة يعجب من سفه الذين ظلوا يقولون منذ عشرين عاما أن مصر على وشك الإفلاس والانهيار والمجاعة وهي لا تفلس أبدا.
وهو صادق في معظم أوقاته وأقواله،ولكنه إذا أراد الكذب لجأ لتحقيق ذلك إلى وسائل شتى أقربها الصمت،وثانيها إدعاء عدم المعرفة،وثالثها اللف والدوران،ورابعها إظهار الأسى للذين اتخذوا الموقف الذي جعله في موقف لا يمكن له أن يقول الصدق في حدوده.
وهو روحاني ولكنه يحاول أن ينكر هذا من نفسه،وأن يعجب من أمور الذين تسير أموركم في هذا المنحنى،وهو مؤمن أعمق الإيمان بأهمية الأعراف الاجتماعية،ومهما كان رأيه في فساد بعضها إلا أنه خير من يلتزمونها،ويدافعون عنها،وليس هذا الموقف إلا صورة لإيمانه بأهمية القيم الثابتة في صوغ علاقات الحياة المتغيرة.
وهو خير الناس إدراكا لأهمية التكافل الاجتماعي،ولكنه مع ذلك معجب بالنمط الأوروبي في الحياة الاجتماعية،ولكنه لا يرقى بإعجابه هذا إلى المرتبة التي يحتلها إيمانه بأهمية التكافل الاجتماعي.
ليس عنده مانع من أن يخرج على المبدأ الواضح في قانون أو غير قانون من أجل قيمة من القيم العليا كالحق والخير والجمال،وليس عنده دافع أبدا أن يترك قيمة من هذه القيم مهما كان المبدأ الذي يطالب الناس بتطبيقه،فالرحمة عنده فوق العدل،والخير فوق الصواب،والجمال فوق النظام،والحق فوق القانون ،والحب فوق كل عاطفة…
وهو مع هذا كله أو لهذا كله،محبوب حب الأولين والأخريين حتى لا يسع عدوه حين يذكر فشله في ناحية إلا أن يشير إلى نجاحه في ناحية أخرى،ذلك أنه أمن بالقيم فحمته القيم من المبادئ…
للعودة إلى بداية المقال إضغط هنا