تعتري المرء في لحظات كثيرة الرغبة في أن يعبر عن شعوره تجاه بعض الذين أتيح له أن يعمل إلى جوارهم فينتهز الفرصة لهذا التعبير حين يصدر كتاب جديد أو طبعة جديدة من كتاب قديم،ولهذا فإنني أحب أن أخصص مقالي اليوم للحديث عن الدكتور ” كمال بشر ” من خلال كتابه المرجع في علم الأصوات،وهو الكتاب الذي نقحه صاحبه على مدى نصف قرن من الزمان ،أتيح له فيه أن يكون المعلم الأمثل لهذا العلم،حيث تلقاه عنه تلاميذ علم اللغة في مستوياتهم المختلفة،وفي معاهد اللغة العربية المتعددة في مصر والعالم العربي،وقد أتاح الزمن لهذا الأستاذ أن يعود إلى كتابه بالتهذيب،والتنقيح،والإضافة،والتوضيح،والتعليق،حتى أصبح كتابه مرجعا جامعا لكل ما يخطر ببال الدارسين لعلم اللغة،وحتى أصبح مرجعه ملاذا للباحثين في العلوم الأخرى التي لا بد لفهمها من إلمام جيد وسريع بعلم الأصوات،ولا أستثني من هذا الدارسين لعلم طب التخاطب والسمعيات.
ولأن الدكتور بشر ابن بار من أبناء المدرسة الإنجليزية في العلم والتعليم ،فقد حافظ على منهج هذه المدرسة في التأليف ،والإيضاح،والبدء بالعموميات قبل الحديث المفصل عن الجزئيات،ثم عن التطبيقات ،ولهذا فإنه – على سبيل المثال – خصص الباب الأول من أبواب كتابه الأربعة لدراسة علم الأصوات العام ،مفرقا بين الفوناتيك والفنولوجيا،ومفرقا أيضا بين الأصوات الصامتة والحركات،وقد خصص كل منهما بفصل خاص،بعد أن عرف الصوت اللغوي،وبعد أن قدم مايعتبره بمثابة تصنيف الأصوات.
ومن الطريف في هذا المقام أن الدكتور بشر ظل حريصا على أن يظهر بصمته في الدرس اللغوي،وفي علم الأصوات،فحين أراد أن يتحدث عما نسميه نحن « علم الصوت وميادينه » أو عما قد يسميه السابقون علينا « علم الصوت ومجالاته » ،فقد أثر تسمية انفرد بها وانفردت به،وهي قوله ” علم الأصوات وجوانبه “ .
والحق أن الدكتور كمال بشر في مؤلفه القيم هذا يكاد يظهر لنا بشخصه وهو قائم كالأسد الهصور على منصة التدريس في الكليات التي قام بواجب الأستاذية فيها،وكأننا نراه وهو يدق منصة الأستاذية بيده منبها لحقيقة أساسية ،أو لافتا النظر للفروق الجوهرية،أو مؤكدا نظرية صائبة انتهى لتوه من إثبات صوابها بكل ما أمكنه من وسائل الإقناع،ولم يبقى إلا أن يختم على كل ما قال بهذه الدقات التي ينقل بها مسرح العلم من قضية إلى أخرى.
لست أملك أن أمضي في التعريف بهذا المرجع المعرف لنفسه،ولا في تكريم هذا الأستاذ الذي كرم نفسه من دون أن أشير إلى الحقيقة الأولى بالتنويه في هذا العمل الرائد،،وفي نشاط أستاذنا،وهو انتباهه الذكي إلى دور علوم اللغة في صياغة التقدم الحضاري،والجهد الذي ينبغي على أساتذتها أن يقوموا به من أجل التوجيه إلى ماهو كفيل بتسريع نهوض أمتهم،وتحفيز تقدم شعوبهم.
والواقع أن هذا الأستاذ الجليل كان من أوائل العلماء الذين لفتوا النظر إلى حقيقة أن الدراسات الصوتية تمثل وسيلة من أفضل الوسائل إلى تعلم اللغة القومية تعلما متميزا،كما أنها كذلك وسيلة من أفضل الوسائل إلى رقي اللغة والحفاظ عليها،ذلك أن المتعلمين يأتون من مناطق مختلفة،وينتمون إلى عينات اجتماعية غير متجانسة،وهكذا فإنهم يأتون إلى مقاعد دراسة اللغة ومعهم عاداتهم النطقية التي يؤدون بها لهجاتهم المحلية،ومن ثم تظهر أثر هذه العادات بصورة أو أخرى في منطق اللغة القومية التي يسميها دعاة الإصلاح اللغوي « اللغة المشتركة » وهي – على سبيل المثال – فيما يتعلق بنا « العربية الفصيحة » ،ويرى الدكتور بشر أنه إذا ما أرشد هؤلاء المتعلمون إلى أصوات هذه اللغة المشتركة سهل عليهم إجادة نطقها،وحسن أدائها،واستطاعوا بالتدريج أن يتخلصوا من العادات النطقية المحلية.
وهكذا يمكن تحقيق التقريب بين عادات النطق المحلية المختلفة، وتذويب الفروق بينها قدر المستطاع،وذلك من أجل تحقيق الهدف الوطني الأسمى وهو أن يكون هناك نوع من التقارب بين طبقات الأمة الواحدة في مجالات الحياة الاجتماعية ،والثقافية ،والاقتصادية.
كذلك فإن مثل هذا التوجه قد يحقق تخليص اللغة المشتركة من الآثار الصوتية ذات الطابع المحلي الضيق،وهو هدف سامي يسعى إليه المصلحون دائما،وبخاصة في عهود القوميات،وفترات النهضات،حيث يتسامى العمل على تشكيل لغة قومية مشتركة صالحة للتفاهم العام بين أبناء الأمة الواحدة.
وقد أشار الدكتور كمال بشر إلى نجاح بعض دول الغرب في هذا الشأن إلى حد ملحوظ،وبحكم انتمائه الذي أسلفنا إليه فإنه يشير إلى أنه كان للإنجليز بالذات دور معروف مشهور نحو لغتهم في هذا الشأن حيث عمدوا إلى الحد من سيطرة اللهجات وتنوعها بنشر الثقافة والتعليم بلغة مشتركة على أوسع نطاق،وقد مكنهم هذا من النجاح في ميدانين مهمين.
أولهما :
تمكينهم من التعلم والتثقيف بلغة قومية موحدة،على الرغم من تعدد البيئات الجغرافية ،والطبقات الاجتماعية.
وثانيهما:
تيسير تعليم اللغة الإنجليزية للأجانب،في صورة خالية من شوائب اللهجات والرطانات.
ويشير كمال بشر إلى أن هذا النهج قد ساعد الإنجليز في جميع أنحاء العالم،وكان من أهم وسائل هذا النهج الاهتمام الكبير بدراسة أصوات هذه اللغة،وتعليم هذه الأصوات للمواطنين والأجانب على السواء.
على هذا النحو يمضي كتاب الدكتور بشر متسلحا بكل ما أمكنه من الفهم الواعي لحقائق العلم ،واتصاله بالعلوم الأخرى،ثم إدراك التقدم الذي أصاب العلوم اللغوية في مجال الصوتيات،ثم فهم الأثر التطبيقي لهذه العلوم على الحياة الثقافية بوجه عام.
وعلى مدى مسيرة علمية ولغوية ممتدة لأكثر من سبعمائة صفحة فإن كمال بشر لا يفقد حماسه المعهود،ولا وطنيته الجارفة،ولا أستاذيته القادرة على الوصول إلى الحقيقة وإجلائها لطلابه ناصعة،..مضيئة.
والحق أني لا أجدني قادرا على الوفاء لهذا الكتاب بما يستحق ،لكني أجدني سعيدا أن أكتب اليوم عن أستاذنا بشر وعن كتاب بشر،وقد سعدت بالتلمذة على أعماله سنوات ممتدة،ثم أسعدني الحظ أن أكون تلميذا مباشرا له،وزميلا مجاورا طيلة فترة ممتدة قاربت عقدا من الزمان،جعلت حبي له يزداد تألقا،وتعمقا،كما جعلتني سعيدا بجواره على نحو ما كنت ولازلت سعيدا بجداله،وإني لأرجو الله أن يمتعه بالصحة والعافية،وأن يزيد في عطائه،وأن يمد في أجله.
تاريخ النشر : 29 يناير 2012
مجلة : أكتوبر
للعودة إلى بداية المقال إضغط هنا