كانت كليات الطب والهندسة والزراعة والتجارة ودار العلوم مدارس عليا تخرج موظفين فنيين يتولون وظائف حكومية محددة في ظل الاحتلال ثم فيما بعد الاستقلال وفيما بعد إنشاء الجامعة المصرية بدأ ضم هذه المدارس العليا إليها وتحويلها إلى كليات جامعية ( في أواخر العشرينات والثلاثينات وأواسط الأربعينات على التوالي ).
ولكننا للأسف الشديد لم ننتبه إلى إضفاء روح الجامعة وثقافتها على هؤلاء الخريجين….فلا نحن ( أولا ) فرضنا – كما تفعل جامعات العالم- مقررات جامعية في الثقافة العامة يختار الطالب من بينها بمحض اختياره ورغبته حدا أدنى بما يتوافق مع ذوقه أو مع ثقافة بيئته،ولا ينال الدرجة الجامعية إلا بعد اجتياز هذه المقررات.
ولا نحن ( ثانيا ) وفرنا برامج ثقافية راقية في صميم نسيج البرنامج الزمني لطالب الجامعة بحيث يجد الطالب الجامعي نفسه مطلعا على ما يصوغ في شخصيته جانب الخريج الجامعي ويصعد به درجات ترتفع به عن أن يكون مجرد موظف فني….ولا نحن ( ثالثا ) احتفظنا مع الزمن بالحد الأدنى لما صاغه رجال الجامعة الأوائل ( لطفي السيد وعلي إبراهيم ومشرفة وطه حسين وأحمد أمين وكامل حسين ومورو وأمين الخولي وكامل منصور وأفلاطون والحفناوي والساوي….الخ ) من روح جامعية حقة بما استنوه من عقد الندوات والمناظرات بين الكليات والمسابقات الجامعية والدورات الثقافية والرياضية ونشاط الجوالة والكشافة والقوافل الطبية والرحلات العلمية المنظمة….ولا نستطيع أن ننكر أن هذه التقاليد الجامعية تتسارع في تقلصها بسبب عوامل كثيرة حتى إنها بدأت تميل إلى الانقراض في الجامعات القديمة بينما هي قريبة من الانعدام في الجديدة….ولكننا لا نستطيع أن نغفل أن كليات العلوم في جامعاتنا لا تزال تحافظ ( بحكم القانون المتمثل في لوائح الكليات ) على رحلة علمية جماعية طويلة الأمد قبل تخرج طلابها بدرجة البكالوريوس.
أما المكتبة العامة للجامعة والتي لا بد منها في كل كلية ( من ذات الأعداد الكبيرة ) أو في كل حرم جامعي على الأقل حتى يجدها الطالب والمعيد والأستاذ واحة يلجأ إليها من حرارة التخصص للاستزادة والإمتاع والمؤانسة….فهي النموذج الصارخ للحديث عن مأساة الأدب والثقافة العامة في الجامعة….ولن أتحدث عن موقف ” المكتبة المركزية ” في جامعاتنا المختلفة بأكثر من أن أدعو الله سبحانه أن يحفظ علينا المكتبة المركزية الوحيدة في جامعة القاهرة حيث حماها الله وحمى مبناها الرائع.
وإذا كان الدعاء يستدعي الدعاء فإني أدعوه سبحانه أن تعود إلى الوجود مكتبة عين شمس التي بعثرت محتوياتها في منتصف السبعينات،وألا تلاقي مكتبة جامعة الإسكندرية عن قريب نفس مصير مكتبة عين شمس وأن تبقى كما بقيت مكتبة جامعة القاهرة في مبنى قريب من مبنى كلية الآداب لتكون حقلا لدراسة طلاب أقسام المكتبات والمعلومات التي انتبهنا مؤخرا إلى أهميتها ،ولتكون بمثابة المستشفيات الجامعية من كلية الطب حيث يمارس الأساتذة وطلابهم كما ينبغي أن يمارس ،ولتكون قبل هذا كله ممثلة للحد الأدنى لما تستمتع به كل مؤسسة في العالم المتقدم – دعك من الجامعة – من وجود مكتبة عامة بين جدرانها كرمز كبير.
بقى أن أذكر الحقيقة الناصعة في هذا الشأن وهي حقيقة مرة ولذيذة في آن واحد ،ذلك أن الانفاق السنوي المطلوب لأية مكتبة مركزية في أية جامعة مصرية والكفيل بجعلها في مستوى أحسن مكتبة جامعية في مصر ( وهي مكتبة الجامعة الأمريكية ) لايتعدى 0,2 % أي اثنين من عشرة في المائة أو واحد على خمسمائة من ميزانية الباب الأول لأي جامعة مصرية….دعك من الاعتماد الإضافي الذي تفضل به الرئيس محمد حسني مبارك في العام الماضي بفضل مساعي الدكتور حسين بهاء الدين الذي بلغ خمسين مليونا من الجنيهات لتدعيم المعامل والمكتبات الجامعية.
تاريخ النشر : 26/09/1995
جريدة : الأهرام
للعودة إلى بداية المقال إضغط هنا