تاريخ النشر : 10 يوليو 2015
بداية أجدد التأكيد على ما أقمت عليه الدليل مرارا، وهو أننا اليوم نعيش عصر حرب دينية واضحة المعالم أو مجموعة حروب دينية تسير في اتجاه وضوح المعالم.
وأذكر ثانيا أن للحروب الدينية جانبا إيجابيا لا يقل أهمية عن جوانبها السلبية الممقوتة والمكروهة وغير المستحبة أو المحببة إلى النفس، ذلك أن تطورات هذه الحروب ومساراتها ومجرياتها كفيلة بأن تطلع الجماهير الغفيرة (بطريقة مركزة ومكثفة وواسعة النطاق)على كثير من أسباب الخلاف التي كان من الممكن تجنب تناميها إلى الحد الذي أطلقت فيه الاختلافات شرارات هذه الحروب، وليس هذا الفعل التنويري القوي بالقليل ولا الهين في ظل ما نعرفه مما جبل الإنسان عليه من عداوة ما يجهله، وكراهية ما لم يتصور تجريبه.
وإذا كان الحديث عن الوعي السياسي وعن التربية السياسية محببا إلى النفس الساعية إلى “تأنسن” الذات و”أنسنة” الآخرين، فإن الحديث عن التربية الدينية والوعي الديني لا يقل حبا ولا احتراما، وليس من قبيل المصادفة أنك إذا حضرت مجتمعا متعدد الأديان وجدت أعلم أهل هذه الأديان يجلسون عن حب بعضهم إلى بعض ويتناقشون بيسر أو في سلاسة، على حين أنك إذا جلست في مجتمع ديني لا يضم أعلم أهل الأديان أو المذاهب المختلفة فإنك سرعان ما تلحظ نشوء حالة من الاستقطاب القادرة على بث العداوة بمجرد النظر. وليس من شك في أن الذين ينادون بفكرة التسامح في نطاقها الواسع قد يدركون حقيقة ما يقود إليه الاختلاف وأنهم نجحوا في بذر بذور للتفاهم والتفهم، لكن الأمر الذي لم تصل الإنسانية فيه إلى الحدود المعقولة من النجاح حتى الآن هو أن يؤمن بهذه الفكرة أي فكرة التسامح من لا يدركون خطورة تنمية الخلافات وتطويرها في اتجاه النزاعات، وضرورة الحصول على النجاح في النزاعات التي يخلقها الاختلاف، وكأن هذا النجاح مؤشر قدرة أو عظمة أو مؤشر ميل بيولوجي إلى الحفاظ على النوع والجنس.
ونحن لا ننكر أن الصراع الإنساني على مدى تاريخ البشرية كثيرا ما كان يعتمد على تنمية الخلاف الفكري بل والاختلاف الديني (والعرفي والمعرفي والعاداتي والتقاليدي بالتبعية)، وأن اعتماد هذا الصراع على تنمية الخلاف لم يكن يقل أثرا عن الرغبة في التوسع أو الرغبة في الحصول على مصادر الثورة ومواطن القوة، فإذا حدث (وهو كثيرا ما يحدث) أن تقوى هذا السبب بذلك، بلغ النزاع حدود الحروب القادرة على الإبادة.
وعند هذا الحد في المسارات التاريخية تأتي الحروب الدينية لتؤدي وظيفة لا تنافسها فيها آلية أخرى، وتتمثل هذه الوظيفة في بلورة الاختلافات الدافعة إلى الحرب في صورتها المركزة، على نحو ما عرفنا ولا نزال نعرف من تاريخ الحروب المسيحية المسيحية وما حفلت به من تمنطق توسع في تعدد فلسفات الفهم المسيحي للعقيدة المسيحية بدءا من أمور التوحيد والتثليث، والصلب والقيامة، وانتهاء بوظيفة رجل الدين في المجتمع المسيحي.
ومع أن طبيعة الزمان الذي اندلعت فيه الحروب الإسلامية الإسلامية كان يتيح لها مستوى فكريا يتفوق في جزئيات الخلاف الحاد فيه عما كان الأمر عليه في الحروب المسيحية المسيحية، فإن حقيقة الأمر أن التاريخ الطويل والممتد للحروب والاختلافات المسيحية فرض نفسه على كثير من توجهات وأسلحة الطوائف الإسلامية، حتى أصبح المؤرخون والمحللون لا يجدون صعوبة في اكتشاف ملامح مسيحية في المسارات الفكرية لكثير من الفرق الإسلامية أو الفرق التي ترفع لواء الانتماء إلى الإسلام، وهو ما يمكن الحديث عنه بالتفصيل غير المتناهي في موسوعات دراسات أديان مقارنة، كما يمكن أيضا تقبل ما توحي به الإشارة السريعة الخاطفة إليه بنفس القدر من الاهتمام والتأصيل المعرفي.
وليس هذا المقال مقاما -على سبيل المثال- للحديث عن أن فكرة المسيح المخلص ألقت بظلالها على التطور العقيدي لطائفة إسلامية معروفة، لن نذكر اسمها، بدأت مسارها الفكري في اتجاه مختلف تماما عما انتهت إليه مع الزمن من استعذاب وولع بالتأثر الواضح بجزيئات سلوكيات مسيحية معروفة للعامة، وذلك دون اعتناق المسيحية نفسها.
وقل مثل هذا في تأثيرات كثيرة لطوائف يهودية على سلوكيات طوائف تعلن الانتماء للإسلام، وقل مثله وأكثر منه على التأثيرات الواضحة للفكر الإسلامي في كثير من المقومات العقيدية للطوائف البروتسانتية.
وإذا حدث أن العلماء المجيدين لتوظيف الحاسوبيات وضعوا جدولا كبيرا من جداول الحسابات التفصيلية (الإكسل) ووزعوا على العناصر المصفوفة في هذا الجدول ملامح التفكير الفلسفي في المذاهب الدينية المختلفة بين المسيحية واليهودية والإسلام بل وغيرها من الأديان حتى الأرضية المتبلورة منها في صورة قريبة من الأديان السماوية لراعهم أن بعض المصفوفات تحمل من التشابه بل والتطابق ما لا يمكن تصوره مع اختلاف الأصول الفكرية والنصوص السماوية، ومع اختلاف النصوص الحاكمة والمفسرة على مدى التاريخ الديني.
وحتى لا أذهب بعيدا في التصوير المختزل لأعماق فلسفة الأديان ومقارنتها فإنني اكتفى هنا بالحديث عن موقف الأديان من قضايا تمس كل عائلة في صميم روح الأسرة، من قبيل قضايا الإجهاض والنسب والتبني والحرية الجنسية.
ولست في حاجة إلى أن أذكر لقارئ هذا المقال ما يعرفه أكثر مني من الاختلافات العقدية في هذه الأمور، وهي اختلافات تجاوزت حدود الأديان والعقائد ونصوصها وتفسيراتها لتختلط بالسياسة اختلاطا مؤثرا ومحددا، ولتصبح مثلا بمثابة أحد أهم الفروق البارزة بين توجهات الحزبين الجمهوري والديمقراطي الأميركيين.
وهنا أفاجئ القارئ بالقول إنه لولا الوعي بالاختلاف على هذا النحو العريض والعميق لوقعت حرب أميركية أهلية بسرعة شديدة ولتنامت أوزارها إلى حد غير مسبوق بسبب عمق هذه الاختلافات وما يترتب عليها من حقوق معنوية وحقوق مادية ربما تكون أكثر أهمية وتسبيبا للنزاع والحرب، ولولا الوعي بالاختلاف كما أقول لاندلعت هذه الحرب التي استوفت مقوماتها الأيديولوجية عن جدارة واستحقاق.
وعند هذا الحد أعود لأفاجئ القارئ مرة أخرى بالفكرة التي كثيرا ما أركز على حيويتها وقدرتها على بعث الحيوية، وهي فكرة التسامح المذهبي التي أرساها المعهد العلمي العريق الذي نشأ في رحاب الجامع الأزهر، والذي يعد اليوم أقدم جامعة في التاريخ، وهي فكرة الحفاظ على وجود المذاهب الأربعة، حتى لو اقتضى الأمر اللجوء إلى سياسة التشجيع على إحياء المذهب الرابع بالمحفزات المادية والوسائل الكفيلة بالحفاظ على وجوده ضمن منظومة المدارس الأربع للفقه السني.
وهنا أشيد بما كررت الفخر به كثيرا من أن أحد متنوري الأزمان الماضية خصص وقفا كان ريعه يصرف على هذه الفكرة، لكني أسارع بالمفاجأة الثالثة في هذا الإطار، وهي مفاجأة مبصرة حتى لو غطى عليها غبار المرحلة السوداء التي نعيشها في ظل الانقلاب العسكري.
فمع كل هذا النقد المستحق والواجب الذي ناله علماء مسنون من علماء الأزهر وأصحاب المناصب والحظوة فيه، ومع كل ما اعتبرناه زيغا وانحرافا وتجريفا ونفعية ونفاقا وسلوكا غير مقبول وغير مستحب فإن الأزهر الشريف نفسه متجليا في شبابه الغض وفي فتياته المقبلات على الحياة ضرب أروع الأمثلة في الفداء والتضحية والثورة والإيمان والجسارة، وتقدم صفوف المجتمع في مواجهة الظلم ومقاومته، مع أنه لم يكن مقبولا أن يتورط رئيس جامعة الأزهر في القاهرة وعميد كلية في “تفهنا الأشراف” في تصرفات نزلت بهما إلى درجة مخبري الأمن بكل ما تعنيه هذه الوظيفة من اشمئزاز في نفوس الوطنيين والثوريين.
لكن العجيب بحق كان أن شباب الأزهر وفتيانه وفتياته قد وصلوا ووصلن إلى مرحلة القديسات والقديسين، واندفعوا إلى هذه القداسة في لمح البصر دون فذلكة ودون مرور بمراحل المانفستو الشيوعي وما شابهه من أطر الحركة الثورية.
وهي ظاهرة لا يمكن فهمها حق الفهم إلا إذا أدركنا أن الحروب الدينية (وكذلك الانقلابات المستغلة للدين والمعادية له على حد سواء) تفتح الباب واسعا أمام إدراك جوهر الحقيقة الإيمانية متجلية ومضيئة دون عبث ودون تأويل، وهي التجربة التي فتحت أبوابها الآن في سوريا والعراق واليمن ولبنان، على حين لم يكن أحد من تجار الحروب يتوقع لها أن تفتح، وأن تثمر واقعا جديدا سوف يتخطى هذا العبث الفكري الذي يمارسه أنصاف المتعلمين مع النصوص وبالنصوص دون وعي منهم أنهم يحرقون أنفسهم قبل أن يحرقوا الآخرين.
هذه النتيجة هي التي أرنو إليها عن قريب في كل ما نشهده من نزاعات راهنة، ذلك أن الوعي بالاختلاف هو أقوى دواعي التسامح والنهضة حتى إذا لم يتحقق هذا إلا بالحرب.
تم النشر نقلا عن موقع الجزيرة نت
لقراءة المقال على موقع الجزيرة.نت اضغط هنا
للعودة إلى بداية المقال إضغط هنا