في القاهرة صدر مؤخرا كتاب ” أبو العلاء المعري …الزاهد المفترى عليه “ للدكتور عبد المجيد دياب…الجديد في هذا الكتاب يتمثل في إعادة قراءة أبي العلاء المعري على ضوء أخلاقه قبل معتقداته،وبخاصة أن هذه المعتقدات قد عانت من افتراء الناس عليها،بالإضافة والتبديل والتحوير وتحميل الكلمات ما لا تحتمل وهذا هو جوهر النظرة الجديدة التي يضيف من خلالها الدكتور دياب هذا الكتاب إلى المكتبة العربية.
ولهذا تجد في الصفحة150 مثلا ” لم يحدثنا التاريخ أن أبا العلاء لوث يده أو لسانه باقتراف منكر.ولا دنس ذيله بارتكاب فسوق أو فجور،بل كان يترك كثيرا من الحلال خشية الوقوع في الحرام،ويربا بنفسه عن كثير من الملاذ المباحة،زهدا فيها واحتقارا لشأنها…وأغرب من هذا كله أنك لا تجد في كلامه – على كثرته – لفظا بذيئا،ولا لفظا يدل على شيء من أعضاء جسم الإنسان أو الحيوان التي يهجن ذكرها ،ولم ينقل لنا التاريخ أن أبا العلاء كذب في شيء مطلقا “
هكذا نجد أنفسنا أمام نموذج مختلف من رجل الأدب والفكر الذي يضطره جهد المفكر إلى الاستماع بما يعينه على التفكير أو بما يظنه معينا له، ولا تضطره مكانة المفكر والشاعر إلى الاستمتاع بما هو خارج دائرة الحلال الذي لا شبهة فيه على الإطلاق.
وهكذا كان أبو العلاء صاحب لزوم ما لا يلزم في أخلاقه قبل شعره ،وهي حقيقة قد تغيب عن الجمهور في ظل الحديث المفضل عن غرائب شعر شاعر عبقري.
وقبل مئات السنين كان أبو العلاء رائدا من رواد الرفق بالحيوان ” فهو يرفق بالحيوان ويرحمه ،فلا يأكل من لحمه لأنه لا يصل إلى ذلك إلا بذبحه وفي الذبح إيلام لحيوان يحس كما يحس الإنسان بالألم،ويحرص على الحياة كما يحرص الإنسان عليها،ويتوقى من الأذى كما يتوقى الإنسان “.
وهنا تتمثل لنا شطحات أبي العلاء في فكره،فرحمته بالمخلوقات تنصرف إلى ضعافها ،ثم هو يتطرق من هذا إلى الاعتقاد بأن عدم النسل يقي أبناءه من المصائب التي يسببها لوجود:
وإذا أردتم للبنين كرامة فالحزم اجمع تركهم في الأظهر.
ومع أن الدكتور عبد المجيد دياب يثبت هذه الفكرة في كتابه،إلا أنه في موضع آخر ينقل لنا عن الدكتور الجندي قوله أنه لم يجد بيت أبي العلاء الشهير :
هذا جناه أبي علي وما جيئت على أحد على قبره.
وكان مثل هذا الدليل يقوم قويا على إنكار نسبة البيت إلى أبي العلاء،وهو ما قد يجوز من غير إنكار هذا البيت ،ولكن فلسفة أبي العلاء نفسها تقبل فكرة هذا البيت.
اللغة كبداية :
لم يكن أبو العلاء المعري أديبا صادق الحس فحسب،ولكن كان كذلك من علماء اللغة ،وقد يكون أدبه وإنتاجه كله انعكاسا لتمكنه من اللغة وجزئياتها جميعا،وللدكتور محمد كامل حسين بحث في مجمع اللغة العربية يفيض بالحديث عن قدرات أبي العلاء في هذا المجال ،وكيف دخل الدنيا من باب اللغة ،ولكن الدكتور عبد المجيد دياب بروح العالم الأكاديمي كشف لنا عن خصلتين مهمتين في إنتاج أبي العلاء الأدبي،فهو متمكن من اللغة مستغل لها في إنتاجه بحيث لا تحتاج إلى كبير عناء لتجليتها ” تسترعي كل من نظر في شرح المعري للمتنبي،فلقد صبغ شرحه بصبغة لغوية قوية حتى لينسى في بعض الأحيان تفسير البيت لما هو مأخوذ به من اللغة “.
والصفة الثانية هي كثرة رواياته،فأبو العلاء هو أكثر الشراح ذكرا للروايات وأكثرهم كذلك احتيالا على وجه آخر في تخريج المعنى.
وهكذا يمكن لنا أن نعود إلى الصفحة الأولى من تقديم هذا الكتاب لنقرأ مع الدكتور دياب ” فقد أحاط بمادة اللغة وصرفها في جميع شؤونه،وأغراضه الفنية,واستعملها فيما أملى من كتبه العلمية والأدبية والدينية شعرا ونثرا “.
ولكن هل كان أبو العلاء منذ يومه الأول على الحال التي اشتهر بها منذ زهد الدنيا؟ هذا ما نقرأ عنه في الصفحة 13 : ” ولعلك ترى أن شاعرنا نشأ كغيره راغبا في الحياة محاربا سواه في موكبها العام ،لا يختلف كثيرا عن معاصريه،ولكنه لم يكد يبلغ الخامسة والثلاثين حتى نرى في شعره مرارة غير عادية،ثم تراه في السابعة والثلاثين قد اتخذ لنفسه طريقا جديدا في الحياة،فأصبح متقشفا ظاهر النقمة لا ثقة له بالإنسان ” .
ومع هذا فإن أبرز عيوب كتاب الدكتور عبد المجيد دياب أنه لم يتعمق في دراسة هذه الناحية في شخصية أبي العلاء ،صحيح أن المؤلف جعل كل همه أن يضع الحقيقة المهمة المتعلقة بزهد الرجل وتدينه وأخلاقه العالية في المحل الأول من مجال رؤية القارئ ،ولكن الذي لا شك فيه أن المؤلف كان أكثر قدرة على تناول الجانب النفسي من حياة أبي العلاء بتحليل أكثر ،وبخاصة وقد توافرت له اليوم المعرفة الحقيقية بكثير من حقائق حياة أبي العلاء وإنتاجه ،ودوافع شانئيه لإضفاء ما خلعوا عليه من صفات ،كل هذا بالإضافة إلى ما أصبح لدينا جميعا اليوم من قدرة على فهم كثير من أمور النفس وتفاعلاتها.
تأملات غائبة:
وليس من شك أن الواجب الأول الذي تنتظره المكتبة العربية من أمثال الدكتور دياب هو أن يلقوا الأضواء على أمثال أبي العلاء من حيث هو أبو العلاء…أما البحث والمقارنة بين ( عدد كراريس ) كل مؤلف من مؤلفات الرجل وهو الجهد الذي استغرق من المؤلف صفحات كثيرة ،فقد يكون أمرا أقل أهمية.
أليس هذا هو ما ينبغي لنا أن نحمي به الحقيقة من أمثال قول جبران خليل جبران في حق أبي العلاء : ” نظر إلى الحياة بعينه المعنوية فرأى الخرافات فتوهمها دنيا،وأبصر الموت فظنه فناء،وحلق بالفضاء فتخيله ربا،فانتصب بين أشباح أفكاره يجدف على اسم الحياة في جيل مستسلم إلى مشيئة الأيام والليالي استسلام العناصر غير العاقلة إلى قوة الاستمرار ” .
أليس مثل هذا الكلام الجميل الساحر الذي يلقيه جبران على مسامع الناس كفيلا بإفساد كل ما بذله الدكتور دياب جهده فيه في نواحي دين أبي العلاء ومعتقده وأخلاقه ( ص 130 – 155 ) والانسياق وراء كلمات جبران الساحرة التي تبعد عن الحقيقة بقصد الفن لا العلم ؟
أما النقطة الثانية التي كان بإمكان الدكتور عبد المجيد دياب أن يوفيها بعض الدراسة فهي طبيعة العلاقة التي تربط فكر طه حسين بفكر أبي العلاء،وقد كان طه حسين من أوائل أهل الأدب في العصر الحديث ارتباطا بدراسة أبي العلاء المعري،ولكن مدى التأثر بين رجلين تشابهت ظروفهما البصرية إلى حد كبير لا تزال تحتاج مزيدا من الدرس الذي لا يجيده إلا أمثال مؤلف هذا الكتاب،والذي يرجع إليه الفضل مثلا في لفت أنظارنا إلى أن أبا العلاء كان سباقا إلى فكرة نعمة العمى من حيث أنه يكفيه رؤية الثقلاء البغضاء ” راجع الصفحة 28.
أما علاقة أبي العلاء بالمتنبي فتأتي هي الأخرى على رأس الموضوعات التي لا تزال تحتاج إلى كثير من التأمل والدرس ،وأبو العلاء كما نعرف شارح من شراح ديوان المتنبي،وإلى أي حد كان التقليد وكانت المعارضة وما هو انطباع أبي العلاء عن فلسفة شاعر العربية الأكبر؟
ومن ألطف ما يمكن أن نتأمل هذا الرجل الذي ” تسعا وأربعين سنة في محبسه بمعرة النعمان لم يغادره في غير أوقات الدرس في العبادة والتأمل ” .
أبو العلاء إذن شخصية فريدة،ليس بالرجل الذي لعب عقله في دينه،أدبه في خلقه،وإنما هو رجل جاء عصر فيه الخرافات فتحداها ،ولكن الخرافات تتحداه وتفرض نفسها عليه وعلى تاريخه المدون عند أناس ،ولكن الزمن والدراسة العلمية كفيلان بتبني وجه الحقيقة في شاعر وعالم ” عاش عيشة الحكماء المتورعين عن الدنيا وأضرابه من الحريصين على أن المقبلين على حكام الدنيا،بل قد رضى باليسير اعتقادا بحكمة القناعة وأحسن بما يفضل عن اعتقاد بشرف الإحسان ” ص78
ويبقى بعد كل هذا كله أن نشير إلى قيمة هذا الكتاب في تعريفنا بمؤلفات أبي العلاء في نبذات سريعة جدا لم يكن من الممكن تطويلها أكثر من ذلك في هذا الكتاب الصغير ،ولكننا نعرف من أن أبا العلاء كان يكتب الكتب أحد بالطلب،فهذا للأمير،وهذا لتلميذه وهذا لابن مساعده،على أن الملخصات التي يعرفها طلاب الثانوية العامة في الدروس الخصوصية…ولكن شأن عن دروس ودروس…فدروس أبا العلاء ستبقى أبد الدهر دليلا على العبقرية والقدرة والإحكام ونمو العقل وحدة الذكاء.
للعودة إلى بداية المقال إضغط هنا