حين انتقلت روح مشرفة إلى الرفيق الأعلى صباح السادس عشر من يناير منذ ثلاثين عاما،لم يكن رصيده في البنك يتعدى مائتين أو ثلاثمائة من الجنيهات،ولكن رصيد مشرفة عند ربه وعند شعبه وفي عمله كان أكبر من أن يقاس بالمقاييس الدنيا،فقد ترك مشرفة كلية العلوم الأولى في مصر وقد أصبحت من كليات العلوم الأولى على المستوى الدولي بفضل الجهود المخلصة التي بذلها صاحبنا طيلة أربعة عشر عاما قضتها الكلية تحت عمادته ابتداء من مايو 1936 حين آل أمر العمادة في كلية العلوم إلى أبناء الوطن،فتولى أمرها مشرفة عميد العلماء المصريين وأولهم وأوسعهم شهرة وأبعدهم صيتا فأضاف العمادة إلى سلسلة طويلة من الدرجات والمراكز العلمية التي أتيح له أن يكون الأول في السباق إليها والحصول عليها‘فقد كان مشرفة رحمه الله أول أستاذ مصري في كلية العلوم وهو لا يزال في السابعة والعشرين من عمره القصير.
وفي كلية العلوم استطاع مشرفة أن يقدم لمصر حشدا من أكفئ أبنائها العاملين عن علم والعاملين بالعلم ،والله يشهد أن كلية العلوم لم تخرج في عهد الرجل العظيم إلا الجوهرة ،ولم يكن غريبا على هذه الكلية إذن ما تمتعت به من سمعة طيبة على جميع المستويات.
على أن لمشرفة بالإضافة إلى هذا كله فخرا بمصير العلم،وقد نجح مشرفة في ذلك نجاحا لم يستطيع أحد من اللاحقين مجاراته فيه،ولعل السر في هذا أن مشرفة سلك إلى هدفه الطريق القديم حين أيقن أن السبيل الأول إلى ذلك هو تعليم العلم في المرحلة الجامعية باللغة القومية ثم أدرك أن هذه هي مهمة الأستاذ الجامعي قبل أن تكون مهمة الدولة أو الطالب أو المجامع اللغوية والعلمية،من ثم فإن على الأستاذ أن يتيقن بنفسه العلم في لغته وهذا هو ما فعله مشرفة ،والرياضة التطبيقية التي تتسم فيها الذروة ،وهكذا بدأ مشرفة تدريس الرياضة التطبيقية في كلية العلوم باللغة العربية حين كانت العلوم الأخرى تدرس جميعها بلغات الأساتذة الأجانب،ثم شارك مشرفة إخوانه من أساتذة الرياضة الكبار في كلية الهندسة ووزارة المعارف في وضع الكتب والمراجع في فروع الرياضة المختلفة،وقد صارت هذه الكتب منذ ذلك الحين بمثابة مراجع قومية ينقل عنها الأستاذ المصري والطالب العربي حتى يومنا هذا،وعنها أخذت كل كتبنا التي ألفت في هذه الفروع الرئيسية من العلم…وهكذا أسهم مشرفة في هذا المجال بأروع الجهد الذي لم يزل أثره باقيا إلى اليوم حين نجد علوم الرياضة هي العلوم الأولى بل والأخيرة التي تدرس في جامعتنا القومية بلغتنا القومية.
وقد نأى مشرفة بنفسه عن لعبة السياسة منذ البداية فقد كان جد مقتنع بأن هذا الذي يخوض فيه الساسة المصريون ليس بالسبيل الأمثل إلى تحرير البلاد والنهوض بها وإنما يأتي ذلك من سبيل العلم والعمل به والعمل لأجله وهكذا كان صاحبنا صادقا في توجيه كل جهده إلى تحقيق المجد فيما جد فيه.
وكانت ثقافة مشرفة مثالا رفيعا في تعدد مناهلها وتكامل حلقاتها فقد كان الرجل بالإضافة إلى عمله الغزير كاتبا موفقا وخطيبا مفوها وعالما باللغة العربية و الأدب إلى الحد الذي – جعله يناظر عميد الآداب الدكتور أحمد أمين وعميد الأدب إلى العربي الدكتور طه حسين والأستاذ عباس العقاد – ،وكانت ثقافة مشرفة التي وسعت كثيرا من العلوم والمعارف رياضية الأصل رياضة الطباع يسيطر عليها النظام الدقيق ولا النظام الشكلي وينتظمها المنطق السوي لا المنطق المرتب.
للعودة إلى بداية المقال إضغط هنا