تساؤلات حول 5 يونيو 67

 

يعتقد كثيرون أن حرب 1967 مازالت تحتاج إلى قراءات ودراسات كثيرة،بل وإلى مذكرات تكتب لتلقي الأضواء على بعض جوانب لا تزال غير مضاءة ،وإنها مازالت كذلك بحاجة إلى آراء تقترح علينا التصوير الحقيقي ،لأن ما حدث كان شيئا من الخيال.

ومن اليسير على كل منا أن يدلي برأيه في 1967،ولكن من المستحيل على أي منا أن يعترف بأنه يصعب عليه الوصول إلى الحقيقة في 1967.

وسأحاول بشيء من التعقل أن أستلفت نظرا القراء إلى أمر مهم جدا لم يناقشه أحد من قبل، هدا الأمر المهم جدا يتمثل في سؤال بسيط .

يقول في براءة : هل دخلت مصر حرب 5 يونيو 1967 لتحقيق هدف معين؟وماهو ياترى هدا الهدف ؟ دلك أنه في تقييم أي نشاط إنساني لا بد من أن نقيس الإنجاز تبعا لمقدار نجاحه أو فشله في تحقيق الهدف،ولا بد من تحديد أو معرفة دلك الهدف الذي نبحث ،هل نجح النشاط في تحقيقه أم فشل في تحقيقه؟

فإذا تأملنا حرب 1967 وجدنا أنفسنا الآن أمام سؤال منطقي وبسيط: هل كنا نهدف مثلا من هده الحرب إلى إزالة ما سمي بدولة إسرائيل؟أم هل كنا نهدف مثلا إلى بث الرعب في قلوب مواطنيها بحيث يتركونها في أول فرصة تتاح لهم؟ هل تم التخطيط مثلا لتدمير قوة عسكرية إسرائيلية معينة أو سلاح محدد،بحيث لا يكون هدا السلاح مصدر خطر على الدول المجاورة ؟ هل كان المقصود على أضعف الإيمان حملة تأديب للقوات الإسرائيلية الموجودة على حدودنا،بحيث تفهم هده القوات أنها تعسكر إلى جوار قوة أو قوات قادرة على التأديب اللازم في أي وقت ؟

لا أريد أن أسترسل في مثل هده الأسئلة،فمن الواضح أننا بدأنا هده الحرب دون أن يكون لنا هدف محدد منها،ومن غرائب الأقدار أننا حققنا نصرين مهمين قبل بداية الحرب،فقد استعدنا شرم الشيخ ،ولكننا لم نستطيع أن نفخر بهذا على المستوى المحلي،لأننا كنا قد أخفينا عن الشعب إغلاق المضيق الذي كنا قد التزمنا  ” دون أن نعترف للشعب أيضا ” بتركه مفتوحا أمام الملاحة الإسرائيلية.

كان من المتوقع إذن أن يكون هناك مزيد من الانتصارات….ولكن ماهي الانتصارات التي كنا نسعى إليها ؟على المستوى الفلكلوري كان الشعب يسأل نفسه هدا السؤال ويجيب الصالحون من سواد الشعب الصالح بأن قواتنا ستصلي الظهر في تل أبيب وربما في القدس بعد العبور على تل أبيب،أما الدين يتمتعون بنزوات الشباب فكانوا يمنون أنفسهم بسبي نساء اليهود في تل أبيب قبل أن يحل عصر دلك اليوم.

ولكن على المستوى القيادي لم يكن هناك تفكير في أي من هدين الهدفين لا الصلاة في القدس أو تل أبيب ولا المتعة في تل أبيب،وهكذا بدأنا معركة  لانعرف الهدف منها لأننا لم نحدده….وسيقرأ الناس ما شاء الله لهم أن يقرءوا كل ما كتب عن هده الحرب وسيجدون موقفا مهما جدا عندما أشار المهندس ” صدقي سليمان ” حسبما روى الرئيس ” السادات ” نفسه في كتابه البحث عن الذات إلى أن إغلاق الخليج يعني الحرب،فالتفت عبد الناصر إلى عبد الحكيم عامر يسأله عن استعداد القوات فأجابه قائد القوات المسلحة بأقصى مما يجاب الرئيس به إدا ما سأل قائد الجيش ،قال عبد الحكيم عامر : ” برقبتي ياريس ” ، ومن العجيب أن كل الذين يذكرون هذه القصة ويعولون عليها في التحكيم بين عبد الناصر وعبد الحكيم  لا يعنيهم منها غير الجزئية الخاصة بالتعبير الذي نطق به عبد الحكيم ومدى ما ينطوي عنه من،ومن،ولكنهم يتجاهلون الشق الأول من الموقف وهو التنبيه المهم الذي أثاره الرجل الرشيد ” صدقي سليمان ” .

ومن الغريب أيضا عبارة عبد الحكيم الشهيرة في مواجهة عبد الناصر‘فإن القائلين بمسؤولية عبد الحكيم عامر عن كل ما حدث،فهل قد سئل عن الاستعداد فأجاب وهذا يمكن ” أو يجب ” إلقاء كل المسؤولية عليه.

ولست في معرض الدفاع عن عبد  الحكيم عامر،ولكني أحب أن أعيد التنبيه على أن مسألة الحرب كما حدثت كانت أكبر بكثير جدا من تصورات كل من عبد الحكيم عامر وجمال عبد الناصر،وسأتخذ للتدليل على هذا القول أربعة أمثلة أراد أصحابها بنشرها أشياء أخرى غير هذا الذي أزعمه،وسيلاحظ القارئ أنني أكاد أبتعد عن بؤرة المعركة حتى لا تصاب عيناي بعدم القدرة على الإبصار من فرط توهج المعركة وأحداثها،وإنما أنا حريص على أن أراقب من بعيد حتى تتضح الصورة كاملة أو قريبة من الكمال.

المثل الأول :

هذا هو رئيس مؤسسة الطيران العربية أي ” مصر للطيران  بعد ما عدل اسمها على نحو ما كانت كل الأسماء تعدل” يروي لنا كيف هداه الله إلى أن ينقذ المؤسسة وطائراتها في حرب 1967 وكيف حدث هذا بالمصادفة البحتة حين تعطلت سيارته في طريق المطار قبيل الحرب بأيام،فمر به صديقه “محمد فائق” وزير الإرشاد القومي   وعلم منه أن الحرب وشيكة ،وهكذا بدأ بمبادرة شخصية في إجراءات عملية وناجحة حمت أسطولنا الجوي،وهو يروي ما قام به على استحياء وإن كان فخورا به بالطبع  كما يروي لنا ” دون أن يقصد ” كيف كان من الممكن في ذات الوقت أن يؤاخذ على ما قام به، وقد وردت رواية ” عبد الرحمان عمار ” في أعقاب نشر مسلسل ” رأفت الهجان ”  حيث أثير كثير  من الأقاويل  حول مدى التخطيط المصري والاستعداد المدني والعسكري لتلقي الحرب،ونشرت إحدى مجلاتنا هذه الرسالة التي أرسلها ” عبد الرحمان عمار ” ليروي فيها كيف استطاع أن يقي شركته الانهيار،عندما أخبره محمد فائق أن الحرب ستشب خلال 48 ساعة.

ونأتي إلى المثل الثاني :

هذا هو المشير ” محمد عبد الغني  الجمسي” الذي هو بلا شك وبلا جدال واحد من أعظم قادتنا العسكريين ،وقد عاش هذه الحرب في صف قريب من الصف الأول وإن لم يكن الصف الأول نفسه وهو في مذكراته يحدثنا عن انطباعه عن قرار بدئ الحرب فيقول “….ومن المؤسف والمؤلم أن يكون كلام المشير عامر – إذا صح ما نسب إليه – عندما سأله الرئيس عبد الناصر في مؤتمر مايو 1967 عن استعداد القوات لتنفيذ إغلاق المضيق،بعد أن قال عبد الناصر ” إذا أقفلنا المضايق فالحرب مؤكدة 100% “،كان رد المشير عامر ” برقبتي ياريس ،كل شيء على أتم استعداد ” .

كان ذلك هو الفيصل في الحكم على القدرة القتالية للقوات المسلحة واستعدادها للحرب برغم أنه كلام سطحي لا يستند إلى أساس عسكري،كما أن أسلوب اتخاذ هذا القرار السياسي الهام والخطير ليس هو الأسلوب العلمي الصحيح لزج القوات المسلحة في حرب ضد إسرائيل ومعروف عنها أن احتفاظها بقوات مسلحة متفوقة على الدول العربية هو مبدأ رئيسي من مبادئ سياستها القومية وإستراتيجيتها العسكرية منذ نشأتها .

أما المثل الثالث :

فيتعلق بقائد عسكري متميز كان قريبا من الصف الأول أو هو من سلطة اتخاذ القرار،وكان المفترض أن يؤخذ برأيه في القرار،ولكن أحدا لم يهتم بقراءة ما كتبه ولا بالانتباه إلى ما حذر منه ،هذا القائد هو الفريق  الشهير ” أنور القاضي ” قائد قواتنا في اليمن ورئيس هيئة العمليات للقوات المسلحة،يتحدث عن تقرير مهم أعد ولكن لم تتم قراءته فيقول ” وضعت هيئة العمليات  تقرير حذرت فيه من القيام بإغلاق المضيق،ولتلافي ماسبق ذكره من عيوب ونقائص،عرضت هيئة العمليات هذا التقرير على الفريق أول ” محمد فوزي ” رئيس الأركان الذي وافق خلال مايو 1967 على غلق مضيق العقبة الذي يترتب عليه الحرب.

ويبدو أن المشير عامر تجاهل هذا التقرير ولم يضعه في اعتباره،عندما وافق خلال مايو 1967 على غلق مضيق العقبة الذي يترتب عليه الحرب.

وتمر الأيام ويكلف الفريق أول “فوزي ” في أواخر أغسطس 1967 بعد الهزيمة بتسلم الأوراق والخرائط السرية للغاية من خزينة منزل المشير ” عبد الحكيم عامر ” في الجيزة،فوجد تقرير هيئة العمليات دون أن يبدي المشير عامر عليه أي تعليق.

ونأتي إلى المثل الرابع :

فهذا الذي يتحدث عنه ” أنور القاضي ” يؤكده ” منير حافظ ” في حواره مع  ” رشاد كامل ” المنشور في كتاب « عبد الناصر الذي لا نعرفه »  حيث يقول ” ….وأن أذكر أن صلاح نصر مدير المخابرات العامة  وقتها أعد تقريرا من حوالي ثلاثين صفحة جاء فيه  أن الوضع ليس بالسهولة التي كنا نتصورها،وأن التصور القائل بتدخل الإتحاد السوفيتي في القتال تصور مبني على مجرد أقاويل،وهناك تقرير آخر من المخابرات الحربية يتحدث ويذكر مدى الاستعدادات الإسرائيلية،ثم مقارنة بين استعداداتنا واستعداداتهم،ولكن كل ذلك جاء ذكره على استحياء في هذا التقرير.

ولعلنا بهذه الأمثلة الأربعة التي اكتفينا  بإيرادها من أمثلة كثيرة ومتعددة نستطيع أن نصل إلى حقيقة هامة وهي أن سؤال ” عبد الحكيم عامر ” أو مساءلته عما حدث في يونيو 1967 يصبح شبيها بسؤال “طالب في الطب أو  طبيب شاب على أقصى تقدير  عن المصيبة التي حدثت بوفاة مريض في حجرة العمليات حينما تركنا له التصرف فيه  ولن أقول العبث به وهو تحت التخدير تحت دعوى أنه سيجري عملية جراحية ،فلا هو يدري  كيف يبدأ ولا كيف ينتهي ولا ما هي الخطوات ولا ماهي العملية أصلا،كل ما فعله أن ضرب مشرطا في بطن المريض ثم أصيب بالارتباك لما رأى الدم ينزف بغزارة شديدة ولا يتوقف مهما وضع ( أو لم يضع ) من ضمادات “

هل تجنيت على أداء ” عبد الحكيم عامر ” في 1967 بهذا الحكم أو أني أنصفته ؟؟؟؟ الله ورسوله أعلم .

والقارئ لما رواه ” ثروت عكاشة ” في مذكراته – وهي أقوى المصادر المتاحة لشرح وجهة نظر جمال عبد الناصر –  يدرك بوضوح أن جوهر عذاب عبد الناصر أنه كان يشكو ،وكان له الحق أن يشكو من روح عدم المسؤولية التي بدأ يواجهها سواء من عبد الحكيم أو من شمس بدران،ولست بموضع الدفاع  عن عبد الحكيم عامر ولا عن شمس بدران ولا عن عبد الناصر ولكن الحق لا ينبغي أن يتجاوز ،وفي هذا الصدد فإن فهمي المتواضع لطبيعة الإدارة يملي عليا أن أقول أنه ليس من حق المسئول الأول أن يشكو من عدم مسؤولية المسئول الثاني فهو المسئول الأول عن ازدهار أو انعدام روح المسؤولية في تصرفات الشخص الثاني….ولا يستطيع التاريخ أن يغفر له تقاعسه عن عزل الثاني عندما يتقاعس….ومن حسن الحظ أن عبد الناصر نفسه قد أدرك هذه الحقيقة حتى وإن جاء إدراكه لها متأخرا.

أما  الحق الذي لا مرية فيه فإن شعبنا الذكي المتحضر قد أدرك هذه الحقيقة حتى من قبل أن يدركها عبد الناصر….وإذا أخذنا باصطلاحات نظريات السلوك وعلم الاجتماع فإن الشعب لم يدرك هذه الحقيقة فقط وإنما تصرف تبعا لها بأسرع مما تصرف عبد الناصر،ولهذا فقد عاش هذا الشعب وانتصر لأنه كان يريد أن يعيش وينتصر.

تاريخ النشر : 11 يونيو 2000

جريدة : الأهرام المسائي

للعودة إلى بداية المقال إضغط هنا

 

 

شارك هذا المحتوى مع أصدقائك عبر :
x

‎قد يُعجبك أيضاً

حماس على طريق النصر

لما ظهرت حركة حماس إلى الوجود دارت مناقشات متعددة حول جدواها ومستقبلها، ...

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com