تاريخ النشر : 20/04/1999
بعد مرور أربعين يوما على رحيله،وبعد سنوات من هذا الرحيل سوف يظل الشيخ “جاد الحق” رمزا للعالم المتمكن الدقيق الذي تمتع بروح القاضي الملتزم بالشريعة وبالقانون كذلك المترفع عن أن يبحث عن أي تقدير من أي شيء أو من أي شخص أو اتجاه غير ضميره النقي التقي الورع،فقد كان في التزامه بالنصوص الشرعية والتشريعية وإلمامه بهذه النصوص وقدرته على الرجوع إليها والانتقاء من بينها،والموازنة بين مقاصدها وترجيح غاياتها….كان في كل هذا نموذجا نادرا إلى أبعد حدود الندرة في العصر الذي عاش فيه.
في ترتيب وزراء يأتي الشيخ “جاد الحق” بمثابة أول وزراء عهد الرئيس مبارك، والتاسع والتسعين بعد المائتين بين وزراء عهد الثورة جميعا، والثاني والسبعين بعد المائة الرابعة في تاريخ وزراء مصر جميعا….وقد كان اختياره لمنصب الوزارة ثم لمنصب المشيخة علامة من علامات تقدير مصر للكفاءات الحقيقية التي تمتلئ بها دواوين بيروقراطيتها من دون أن تزعج الجماهير في وسائل الإعلام وقنوات السياسة في كل حين وآن،وقد عمل فضيلته طيلة حياته الوظيفية في السلك القضائي منذ تخرج في كلية الشريعة في الجامع الأزهر الشريف 1943 ثم نواله منها درجة العالمية مع الإجازة في القضاء الشرعي 1945 وكان واحدا من جيل القضاة الشرعيين الذين استطاعوا أن ينهضوا بوظيفة القضاء الشرعي في قدرة واقتدار وذكاء وشرف طيلة العهد الذي استمر فيه هذا القضاء،وكان مرة أخرى واحدا من جيل القضاة الشرعيين الذين أصبحوا قادرين بكفاءة ملحوظة على أن يتولوا المناصب القضائية على اختلافها حين انضم القضاء الشرعي إلى القضاء المدني….وعلى الرغم من الظلم البين الذي تعرض له هذا الجيل في الدرجات المالية والوظيفية حين نفذت الدولة هذا الضم بطريقة صارخة الظلم إلا أن هؤلاء جميعا وبلا استثناء فيما وكلته إليهم الدولة من مهام ومسؤوليات قضائية وكانوا على الدوام بمثابة المرجع الأول والأخير في قضايا الأحوال الشخصية والولاية على النفس وفي قضايا المواريث فضلا عن كل ما اختص به القضاء المدني منذ نشأ….وقد بلغ الغبن والعنت الذي وقع على هذه الطائفة أنهم كانوا يظلمون في حوالي 15-20 عاما من عمرهم الوظيفي حين يعادلون بدرجات القضاء المدني….ومع أنهم قد خرجوا جميعا إلى التقاعد الآن إلا أن أحدا لم يفكر في إنصافهم.
وقد ظل الشيخ “جاد الحق علي جاد الحق” في السلك القضائي يؤدي وظيفته السامية إلى أن وقع عليه الاختيار ليكون مفتيا للجمهورية خلفا لزميله الشيخ محمد خاطر الذي كان هو الآخر قد قضى معظم حياته في سلك القضاء الشرعي ثم القضاء المدني بعد توحيد القضاء ين ووصل إلى درجة مستشار في محكمة النقض.
وكان الشيخ “جاد الحق” واحدا من العلماء الثلاثة الذين تتولوا في 1979 وضع التعديلات التشريعية على قانون الأحوال الشخصية الصادر في 1928 وقد اشترك في وضع هذه التعديلات مع الإمام الأكبر الشيخ” محمد عبد الرحمان بيصار” ووزير الأوقاف الدكتور “عبد المنعم النمر”،وقد استقت اللجنة كل ما أدخلته من تعديلات من نصوص شرعية موجودة ومتكررة ومسجلة في كتب الفقه الإسلامي منذ زمان بعيد….وعلى الرغم من ذلك فإن العلماء الثلاثة لقوا العنت من كثير من الأقلام الديماغوجية التي كانت تنتهز فرصة كهذه في ذلك المناخ المتوتر في ذلك الوقت.
ودعي الشيخ “جاد الحق” إلى المحكمة عقب اغتيال الرئيس السادات،وتولى في تؤدة وهدوء وأمانة ودقة القاضي والعالم والباحث تفنيد كل ماجاء في ذلك الكتيب الذي صدر بعنوان ” الفريضة الغائبة ” ونسب إلى أحد المتهمين :محمد عبد السلام فرج .
وفي مطلع 1982 تولى وزارة الأوقاف وفي منتصف مارس في نفس العام عين شيخا للجامع الأزهر وظل في هذا المنصب أربعة عشر عاما ” إلا أياما قليلة ” كان فيها نموذجا لا يتكرر للعالم الفاضل الملتزم بالتدقيق والتحقيق في كل ما يصدر عنه ويتصدى له،وقد تجلى هذا الحرص الشديد في كل سلوكياته فلم يكن يرتجل أحاديثه أبدا،وكان حريصا على أن يقرأها بكل دقة،وكأنه كان ينير شمعة الالتزام في عصر سادت فيه الفوضى وعم فيه الارتجال وتكاثرت فيه العشوائيات في كل منحى من مناحي الحياة والثقافة والفكر،وقد بلغت به الدقة حتى في قراءته للنصوص أنه كان يراجعها وهو يتلوها،وأذكر انه في حديث له في شهر رمضان الفائت وكان عن القياس كوسيلة من وسائل الاجتهاد أعاد قراءة سطر من حديثه لأنه استشعر بحسه الفقهي الدقيق أن الناسخ قد أخطأ فيه بأن وضع أداة النفي في غير موضعها….وحين أثيرت قضايا اجتماعية واقتصادية خطيرة في وسائل الإعلام على مدى السنوات الماضية تعمد الإمام الأكبر أن يؤجل إعلان رأيه أو حتى مجرد إبداء الرأي المبدئي حتى يعود إلى النصوص ليخرج منها بما يرضي ضميره العلمي والشرعي….وكانت شجاعته في إبداء رأيه مضرب للأمثال في الخضوع التام للنصوص الفقهية،وتنحيته ضغوط الرأي العام إلى أبعد الحدود،وقد كان إخلاصه لعلمه وفقهه مثار إعجاب شديد وتقدير لا حدود له من زملائنا من الأطباء الغربيين الذي كانوا يعرفون ويقدرون ويتعودون على الدوام على أن يكون هناك خلاف وتعدد في الآراء.
ويستطيع المجتمع المصري أن يتذكر للشيخ “جاد الحق “أنه ظل بمثابة النموذج الأكثر احتراما بين مناظريه في السلطة طيلة أربعة عشر عاما من توليه الرئاسة العليا لكثير من الأمور في الأزهر بدءا من المعاهد التي توازي وزارة التربية والتعليم والجامعة بفروعها التي توازي وزارة التعليم العالي،ولجان الفتوى الذي توازي دار الإفتاء وبعض إدارات مجلس الدولة،ومدينة البحوث الإسلامية التي تقوم بأهم وظيفة في العلاقات الثقافية الخارجية،التي أسسنا لها وزارة في وقت من الأوقات وإدارة الدعوة وقطاع الوعظ اللذين يوازيان الوظيفة الأساسية لوزارة الأوقاف في مجتمع مسلم،ومجمع البحوث الإسلامية والقطاعات التابعة له الذي يوازي في صورة مهذبة ورفيعة المجلس الأعلى للثقافة وقطاعات وزارة الثقافة….وعلى حين كان الاضطراب والتضارب يسود تصريحات كثيرين من الوزراء والمسئولين تجاه كثير من القضايا العامة المثارة فإن الشيخ جاد الحق ” أيما كان رأيه ” كان يعرف كيف يحترم نفسه ويبدي رأيه بعد دراسة وبحث حتى لو تأخر بعض الشيء في بحث الأمر المعروض،وكان في آرائه المتوالية متسقا مع نفسه ومع فكره،ولم يحدث أبدا أن حمله الريح في الاتجاه السائد.
للعودة إلى بداية المقال إضغط هنا
رجل في زمن قل فيه الرجال