يكاد الدين يمثل العامل الأول والأخير في نهضة اللغتين العربية والإنجليزية وإن كانت ظروف تحقق هذه النهضة قد اختلفت في الحالين.
فأما اللغة العربية قد أفادت أقصى إفادة ممكنة للغة من دين،وذلك أن القرآن الكريم حفظ لهذه اللغة مكانتها وارتقى بها في جميع الميادين بل وتطور باللغة نفسها ويمكن لنا على سبيل الإجمال أن نلاحظ :
أولا :
إن القرآن قد قوى سلطان ” اللغة القرشية ” ،وقد جاء الحديث النبوي هو بهذه اللغة وهكذا تم اختيار ” اللغة القرشية ” ليتوحد العرب حولها،وأصبحت الألسنة العربية جميعا تنطق هذه اللغة على نحو ما ينطقها القرشيون ،وهكذا تحقق مبكرا مبدأ توحيد لغوي كان من العسير أن يتحقق بدون انتشار الدين الإسلامي.
ثانيا :
تهذيب اللغة العربية وتحولها إلى لغة آداب رفيعة،وقد تحقق هذا كنتيجة طبيعية لوجود نص أعظم كالقرآن الكريم في أدبيات هذه اللغة،ونحن الآن في القرن العشرين نستطيع أن نفهم الجدوى الهائلة لوجود نص ما في لغة ما عن موضوع ما،فما بال بوجود نص معجز يتناول الحياة الدنيا وما وراءها بكثير من التفصيل على نحو ما فعل القرآن الكريم.
ثالثا :
وقد أدى هذا بالطبع إلى إعطاء اللغة العربية قدرة على الاتساع للحديث عن الأغراض المختلفة ( من فنون القول ) والمعاني المختلفة المتقاربة والمتباينة والأخيلة بكل ما فيها من تشبيه ومجاز،والأساليب المتعددة التي أحصى علماء اللغة والبلاغة منها أعدادا متعددة،ثم الألفاظ نفسها التي أعطى القرآن المثل الأعلى في إمكانية تقبلها حتى ولو كانت لغات أخرى.
رابعا :
ولأن الإسلام حضارة،فقد عولجت باللغة العربية قضايا لم تكن قد عولجت بها من قبل كمسائل القوانين والتشريع والقصص والتاريخ والعقائد الدينية والجدل والميتافيزيقيات والإصلاح الاجتماعي والنظم السياسية وشؤون الأسرة وأصول القضاء والمعاملات هذا كله فضلا عن مجالات العلوم الطبيعية من فلك وطبيعة وحيوان وطب….الخ.
خامسا :
كذلك فإن المجتمعات الإسلامية المتقدمة فيما بعد ذلك استخدمت هذه اللغة كأداة للتأليف والتفكير والتعقيب في شتى جوانب المعرفة الإنسانية كما هو معروف لنا جميعا،وكما صارت إليه لغتنا الآن التي لا تعجز عن أن تتناول أي موضوع من موضوعات الحياة العامة حتى ولو اضطرت إلى أن تتضمن نصوصها بعض الألفاظ الأجنبية والاصطلاحية.
وقد أفاض الدكتور ” علي عبد الواحد وافي ” في كتابه ” فقه اللغة في بيان القرآن والحديث والإسلام في اللغة العربية ” في الفصل الأول من الباب السادس،كذلك كتب الشيخ ” أحمد حسن الباقوري ” رسالة قيمة حول هذا الموضوع .
أما الدكتور” إبراهيم أنيس ” فقدم لنا في كتابه العظيم ” اللغة بين القومية والعالمية ” تاريخ تطور اللغة الأجنبية حتى صارت إلى مكانتها التي وصلت إليها الآن ويهمنا من هذا التاريخ الطويل للصراع اللغوي في الجزر البريطانية أن نذكر الجانب المتعلق بأثر الدين في النهضة الحاضرة للغة الإنجليزية.
ويمكن القول بأن المصلح الديني ” وكليف ” كان صاحب الفضل الأوفى في هذا المجال،فقد كتب باللغة الإنجليزية أثاره الدينية الروحية التي مهدت للنهضة الدينية في عهد الإصلاح بإنجلترا وقد مهد ” وكليف ” لحركة الإصلاح الديني التي سادت إنجلترا في أواخر القرن الخامس عشر وأوائل القرن السادس عشر الميلادي ولم تكن حركة الإصلاح في حقيقة أمرها إلا حركة لغوية تدعو إلى أن يتعبد الناس بلغتهم المحلية ( أي الإنجليزية ) وأن يعظهم القسس والرهبان في الكنائس والمعابد بهذه اللغة التي يفهمها الجميع ويعتزون بها….أي حركة الإصلاح لم تكن إلا صراعا بين لغة الكنيسة ( اللاتينية ) وبين لغة الشعب ( الإنجليزية) ،فكلما حاول بعض المصلحين ترجمة الإنجيل إلى الإنجليزية صودرت الترجمة فزاد الناس تعلقا بها وإقبالا عليها،فقد أحست الطبقة الوسطى والطبقة الدنيا كذلك بكيانهم اللغوي واستمسكوا بلغتهم الإنجليزية التي عبرت في صدق وأمانة عن أحاسيسهم وعواطفهم وآمالهم والتي اصطنعوها في الحياة والتعامل،فأصبحت الصورة الحقيقية لعقولهم وتفكيرهم .
ويذكر لنا الدكتور” إبراهيم أنيس ” أن العهد القديم ترجم عدة ترجمات في النصف الأول من القرن السادس عشر ثم عقد مؤتمر ” هامتون كورت ” وانتهى هذا المؤتمر بوضع تلك النسخة المحققة المعتمدة من الإنجيل سنة 1611 م،وهي النسخة التي لا تزال تقرأ ويتعبد بألفاظها حتى الآن،ومن حسن الحظ أن هذه النسخة المعتمدة وضعت في وقت كانت الإنجليزية فيه قد بلغت ذروة مجدها البياني بعدما ألف شكسبير آثاره الخالدة.
ويقول الدكتور أنيس : ومنذ ذلك الحين أصبح الإنجيل في لغته الجديدة،يقرأه الغني والفقير صباحا ومساء،في القصور والمنازل والأكواخ،في السهول وفي الجبال،وفي السفن وفوق متن البحار،وفي أمكنة العبادة على اختلاف أنواعها.
وشرع الدارسون في تفهم كل سطر من سطوره،وكل كلمة من كلماته يتناولونها بالتفسير والشرح….كان الإنجيل بالنسبة للناس بمثابة مدرسة يستمدون منها معرفتهم ويشع نورها على عقولهم،فلم ينل منه على مر الأيام والعصور،ولم يتطرق إلى أساليبه إهمال أو نسيان،بل ظلت كلماته على كل لسان،وقد نقشت في الصدور والأذهان،وأصبح الإنجيل بمثابة الكتاب الذي صان الإنجليزية( على حد تعبير الدكتور إبراهيم أنيس ) على مر الأجيال ،ليس فيه كلمة لا يعرف معناها الإنجليزي المثقف سوى بضع كلمات من أصل عبري،وكل أساليبه تعد في الذروة من البيان الإنجليزي،وهو النموذج الأدبي الذي يتطلع إليه المتكلمون باللغة الإنجليزية وسيظل الناس في إنجلترا وأمريكا وأستراليا وكندا يصطنعون لغة واحدة طالما ثابروا على قراءته والاستماع لنصوصه،وفي مثل هذا ضمان لاستمرار الوحدة اللغوية بين هذه الشعوب.
وهكذا نرى أن نصوص النسخة المعتمدة من الإنجيل قد ارتبطت ارتباطا وثيقا بعقيدة الإنجليز فأصبحوا ينظرون إليها كأنما هي من الوحي الإلهي.
ولم يأت القرن الثامن عشر إلا وكانت أوروبا قد بدأت تحس بالأدب الإنجليزي….ثم كان ما نعرفه جميعا من تقدمها إلى المكانة الأولى بين اللغات الأوروبية واحتلالها موقع اللغة العالمية الأولى.
المصدر : المجلة الثقافية
للعودة إلى بداية المقال إضغط هنا