تاريخ النشر : 1998
مجلة : منبر الإسلام
موضوع هذا الكتاب من الموضوعات التي لم تدرس بعد بما تستحقه من تفصيل،والسبب معروف للجميع،وهو الاعتقاد السائد بان النظام السياسي في الإسلام يقوم على مفاهيم مختلفة تماما عن مفاهيم النظم السياسية المعاصرة،ومن ثم فإن دراسته لمفاهيم هذه النظم تصبح صعبة وربما مستحيلة،فضلا عن هذا فإن الأكاديميين لا يحبون لأنفسهم أن يكونوا من الحريصين على الوصول إلى أوجه الشبه بقدر ما هم حريصون على التوصل إلى وجوه الاختلافات.
ومع هذا فإن تيار الوعي الإسلامي المعاصر حرص على أن يدرس جوانب شتى في نظام الدولة في الإسلام….وتأتي دراسة الأستاذ فريد عبد الخالق اليوم لتضيف أبعادا دقيقة وزوايا مضيئة إلى جانب من أهم الجوانب في الدراسات القانونية للنظم الإسلامية،وهو دراسة مبادئ قانون الدستور الإسلامي.
وعلى الرغم من أن الدراسات المتاحة لم تصل بعد إلى إطلاق هذا اللفظ على ماهو موجود من مبادئ دستورية في الفقه السياسي الإسلامي،إلا أن فريد عبد الخالق بدراسته المتعمقة التي يتضمنها هذا الكتاب يدفع لنا ويأخذ بأيدينا أخذا إلى الاقتناع التام بوجود هذا الفرع من القانون بالفعل فيما تضمنته مبادئ السياسة في الإسلام،وما تضمنته أصول الفقه فيما يتعلق بهذه القضايا الحية والحيوية،وينبغي لنا هنا أن نسارع بتذكير القارئ أن هذا المؤلف العظيم ظل طيلة أكثر من نصف قرن من الشخصيات الفاعلة في الحركة الإسلامية الديناميكية بدءا من عضويته البارزة في الإخوان المسلمين منذ عهد” حسن البنا ” حتى قيامه اليوم بخطبة الجمعة في مسجد محمود بالمهندسين.
وقد اختار المؤلف أن يدير حديثه في إطار اشتمال الفقه الإسلامي على أركان العدل والمساواة والشورى ،وأشهد أنه استطاع أن يتناول هذه الأركان الثلاثة بتحديد واضح ،وشمول مقصود ولكنه على الرغم من هذا جعل كتابه من بابين وخصص الباب الأول ” للشورى ” على حين خصص الباب الثاني ” لمبدئي العدل والمساواة” في فصلين متناظرين.
مبدأ الشورى وما تفرع عنه.
شروط أهل الحل والعقد.
الحقوق السياسية لغير المسلمين في الإسلام ودولته.
وهكذا يمكن لنا أن نفهم أن المؤلف استطاع أن يضع يده وأن يدلي بدلوه في مجموعة مهمة من القضايا الخلافية التي يدور حولها جدل ولغط من حين لآخر،وسوف نجد أن المؤلف استطاع أن يصل إلى آراء جزئية فيما يتعلق بموقف الإسلام من هذه القضايا،وربما يتعرض المؤلف في القريب العاجل لانتقادات كثيرة حول ما توصل إليه من آراء في هذه القضايا،ولكني لا أعتقد في ذلك لسبب غير موضوعي وهو أن أحدا لا يقرأ الآن ولا يهتم إلا بالقضايا الخفيفة،ولكن مؤلفنا يمضي في طريق آخر جاد كل الجدية.
ولنأخذ على سبيل المثال موقفه من المرأة،فقد حاول أن ينصفها وهو يؤكد أن الشريعة لاتعرف تفرقة بين الرجل والمرأة في مباشرة الحقوق السياسية ومنها بطبيعة الحال الحق في اختيار أهل الشورى،بل والحق في الوجود بين أهل الشورى أنفسهم،ومن الواضح أن المؤلف يتحدى بهذا كثيرا من الآراء السابقة بل والسائدة،وهو يعلم ذلك علم اليقين ،بل ويناقش حجج هؤلاء ويرد هذه الحجج ببراعة واقتدار.
ولنأخذ على سبيل المثال أيضا مناقشته لحديث الرسول صلى الله عليه وسلم : ” لن يفلح قوم ولوا أمرهم إمراة “ وهو بعد استعراض مطول للفكر السياسي الذي استند إلى هذا الحديث لا يجد مانعا في أن يجاهر برأيه قائلا :
” إن الحديث هو من أحاديث الآحاد ذات الصيغة الظنية وقد ورد في مناسبة تاريخية معينة حين أبلغ الرسول صلى الله عليه وسلم بأن الفرس كانوا في حالة انهيار سياسي وانحلال أخلاقي ،تحكمهم ملكية استبدادية فاسدة وصراعات على السلطة بلغت بهم حد الاقتتال عليها والحرب دائرة بينهم وبين العرب – وقد أسندوا أمر قيادتهم ومملكتهم إلى ابنة كسرى تعلقا بأوهام الوثنية السياسية لا عن رأي أو شورى،فكان الحديث وصفا لحال الفرس المتردي وقراءة بصيرة في سنن قيام الدول وانحلالها، فهذا إخبار عن حال وليس تشريعا عاما ملزما،ذلك ما يدل عليه فقه الحديث “.
” فهناك من القرائن إذن ما نجيز صرفه عن معناه الظاهر أو نصرفه من العموم إلى الخصوص،وإن نصب الإمام يعتبر من أعمال السياسة التي لم يرد فيها نص قطعي يفيد المنع من نصب امرأة للخلافة إن هي استوفت شرط الخلافة وفضلت في ذلك عن غيرها ممن يرشحون لها،فالمطلوب شرعا توسيد الأمر لأهله وتقديم الأفضل على دونه إلا أن يوجد مانع شرعي،فهو من الأمور المسكوت عنها في أحكام الشريعة فيعمل فيها بمقتضى قاعدة درء المفاسد وتحقيق المصالح والأحكام الشرعية مبنية على الحكمة ومعللة بما يرجع إلى القاعدة المذكورة آنفا ولذلك لم يصح عندنا أنها من السنة التشريعية العامة الملزمة وإنما هي إخبار جاء في واقعة عين.
” ولكل معين خصوصية ليست في غيره ولو في نفس التعيين وليس ما به من الامتياز معتبرا في الحكم بإطلاق ولا هو طردي بإطلاق ” والخلاف ففي المسألة عندنا هو من الخلاف المتعلق بتحقيق المناط وإدراج الجزئي المعين في نطاق القاعدة الكلية التي تشمله والأصل في هذا الخلاف أنه من جنس في الفروعيات التي لايشنع فيها على المخالف ولا يقدح بها في دينه،ولا في عدالته لارتباطه بالدراية بالواقع أكثر من ارتباطه بالعلم بالشرع ،وإنما يتكلم فيه بالحجج العملية،إن أية في كتاب الله بينت لنا أصلين مطلوبين في الولاية العظمى لينتظم أمرها- ولا إشارة فيها إلى اشتراط الذكورة ولا غيرهما – أداء الأمانات إلى أهلها،والعدل في الحكم بين الناس”.
وذلك في قوله تعالى : “إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل إن الله نعما يعظكم به إن الله كان سميعا بصيرا ” صدق الله العظيم ( النساء : الآية 58 ).
يقول ابن حزم ” وهذا متوجه بعمومه إلى الرجل والمرأة، وقال العلماء نزلت في ولاة الأمور”.
وعند هذه النقطة يستشهد الأستاذ فريد عبد الخالق بما ذكره عالم الإسلام ابن تيمية في كتابه ” السياسة الشرعية ” حيث يقول : ” وركنا الولاية : القوة والأمانة “.
كما قال تعالى : ” إن خير من استأجرت القوي الأمين” صدق الله العظيم ( القصص : الآية 26 ) والقوة في كل ولاية يحسبها والواجب تولية الأمثل فالأمثل ومع أنه يجوز تولية غير الأهل للضرورة إذا كان أصلح الموجود فيجب مع ذلك السعي في إصلاح الأحوال حتى يكمل في الناس ما لا بد لهم منه من أمور الولايات والإمارات ونحوها والمهم في هذا الباب معرفة الأصلح وذلك إنما يتم بمعرفة مقصود الولاية ومعرفة طريق المقصود فإذا عرفت المقاصد والوسائل تم الأمر وإذا سوى فإن الوسائل غير محددة شرعا وعقلا وإنما هي متروكة لمقاصدها من درء للمفاسد وجلب للمصالح ودفع للحرج والعسر وإنما تركت دون تحديد توسعة من الشارع الحكيم على عباده واكتفاء بما قرر الشارع من مبادئ كلية وقواعد عامة وقيم أخلاقية يرجع إليها ويهتدي بها في صياغة أنظمة الحياة كلها في الحكم والمال وغيرهما وفي السياسات التي لا قيام للحياة الإنسانية والعمران البشري بدونهما وإن لم تكن معهودة في صدر الإسلام.
كما يستشهد فريد عبد الخالق بما ذكره في نفس المعنى الدكتور” عبد الحميد متولي ” في كتابه القيم ” مبادئ نظام الحكم في الإسلام ” حيث يقول:
القول أن الشرع الإسلامي وضع شروطا معينة لجزئيات أنظمة الحكم هو قول لا يخدم نظام الحكم كما أنه لا يخدم الشرع الإسلامي بل يسيء إلى الاثنين معا فضلا عن أنه يتعارض مع خاصيتين من أهم خصائص الشريعة الإسلامية وهما : خاصية المرونة ومراعاة مقتضيات ظروف البيئة أو الصالح العام،وخاصة التيسير ونفي الحرج،ومما هو بين أن الشروط الواجب توافرها في الناخب أو النائب –مثلا- تعد من ضروب تلك الجزئيات المتغيرة المتطورة بطبيعتها “.
ويعود الأستاذ فريد عبد الخالق إلى القضية التي يدافع عنها حيث يقول:
” كما تجدر الإشارة هنا إلى أن ماجاء ذكره في الحديث عن حكم تولية المرأة وما فهمه فريق من العلماء من أنه يفيد النهي عن ذلك هو محل نظر لأن تخريج مناطه عندنا ليس من تولية المرأة وإنما هو فساد نظام الحكم فيهم وعدم إقامته على أداء الأمانات إلى أهلها وعدم الحكم بالعدل بين الناس وإسناد أمرهم إلى امرأة ليست أهلا للإمامة وإنما اختاروا لها ابنة كسرى بعد موته وهذا هو سبب عدم فلاح القوم المشار إليه في الحديث ، ولم يصح عندنا رأي من جعل تولية امرأة هو المناط لأن تحقيقه على هذا الوجه لا يصح لأن كتاب الله قد جاء فيه ما يعارضه وذلك فيما حكى لنا عن فلاح قوم آخرين ولوا أمرهم امرأة في قصة مملكة” سبأ “وملكتهم” بلقيس ” في سورة النمل،ومناط فلاحهم صرحت به الآيات فيما ذكرت من انتظام أمرهم على قاعدتي الشورى والعدل وغيرهما مما تقوم به الممالك وتفلح الأقوام فلا وجه للقول إن ما جاء في الحديث عن نهي تولية المرأة هو بيان من السنة لما أجمله القرآن ولا هو تشريع عام وإنما هو وصف أخبار في واقعة عين والله أعلم.
وعلى مثل هذا النحو وبمثل هذا التفكير والتحرير استطاع الأستاذ فريد عبد الخالق أن يمضي في كل القضايا التي تعرض لها بشخصية قادرة على النفاذ إلى الحق في أعماق النصوص والقرآن وقد استعان على ذلك بثقافة عالية رفيعة وامتداد شجرة المعرفة الدينية والسياسية والاجتماعية لتشمل أوسع دائرة ممكنة من الثقافة اللازمة للحكم في أمور النظام السياسي في الدين الإسلامي ويكفي أن نتأمل ما أورده من أسباب متعددة أقام بها الحجة الشرعية على وجوب الشورى كمبدأ إسلامي أساسي،وتعداده للشروط الواجبة في أهل الشورى أو أهل الحل والعقد كما يسميهم.
ومن الجدير بالذكر أنه يحبذ الانتخاب كوسيلة لاختيار هؤلاء ولكنه يتحفظ مشترطا إجراء الانتخابات في جدية ونزاهة ،وقد سبقني الدكتور “عبد الوهاب العشماوي” إلى التحفظ على هذه النتيجة وصل إليها المؤلف وطرح عليه في تقديمه للكتاب سؤالا : هل عملية الانتخاب لو توافرت لها النزاهة واتسمت بالجدية والوعي من جانب الناخبين كفيلة بأن تحمل إلى المجلس المنتخب من هم حقيقة أهل الرأي والشورى؟
لقد أثبتت التجربة أن العيب ليس في كيفية إجراء الانتخابات ،وإنما قد يكون في إصلاح النظام ذاته .
ويعقب الدكتور العشماوي بملاحظة ذكية يقول فيها إن أصحاب الحرف يقولون إن محاولة إصلاح ترس واحد من تروس المركبة قد لا يترتب عليه إصلاحها بل قد يؤدي إلى تعطل المركبة بأكملها.
للعودة إلى بداية المقال إضغط هنا