تاريخ النشر: 4/7/2000
جريدة : الاخبار
في احيان كثيرة تغيب الفكرة عن الاكاديميين المثقفين, ولكنها تكون حاضرة في ذهن رجل الشارع, وليس هذا بغريب على الطبيعة الانسانية, والعقل البشري, بل ربما كان هذا هو الافضل من اجل الحياة نفسها وحتى لا يظن المشتغلون بالعلم في أي لحظة انهم وصلوا الى كل شيئ, او ان عملهم كفيل لهم بالوصول الى كل صواب.
وربما يدفعني هذا الى ان اقول إنه يبدو أن مثل هذا “التناقض الظاهر”, هو احدى نعم الله سبحانه وتعالى على العقل البشري والفكر الانساني.
لعل اخلص من هذه المقدمة الى خطورة استمرار التفكير المسترسل في اصلاح احوال الجامعات المصرية عن طريق زيادة الموارد, وأنا اعتقد أن المجتمع لن يتقبل منا اي استمرار في سياسة طلب المزيد من الموارد من اجل اصلاح الجامعة, لان هناك عوامل حاكمة للموراد المحدودة وكيفية توزيعها بنسبة معقولة وتناسب مطلوب على القطاعات المختلفة, سواء من اجل الخدمات او من اجل التنمية.
وربما لا يشغل الرأي العام باله بزيادة الموازنات المخصصة للجامعة من مليارين الى اربع مليارات او الى ثمانية مليارات, لان شعبنا غير مغرم بالارقام ولا بحفظها….ولكن الخطورة تكمن في ما اذا انتبه صاحب مصلحة من كبار المسؤولين عن الشركات المنفذة لمشروعات المرافق مثلا الى ان الانفاق على الجامعة في مصر يوازي عشرة اضعاف الانفاق على مرفق معين, على حين أن القاعدة في امريكا واوروبا ان الانفاق على هذا المرفق يتوازى مع الانفاق على الجامعات.
عندئذ سينتبه الرأي العام وربما يطالب بتخفيض الموازنات المخصصة للجامعات المصرية بينما نحن اعضاء هيئات التدريس لا نزال نعاني من أن مخصاصاتنا المالية اقل بكثير من نظرائنا في الخارج ومما نستحقه, ومما هو مطلوب منا في المجتمع.وكل هذا صحيح, لكن المشكلة في الاهدار المستمر لكل موارد وطاقات الجامعة على نحو ما بينت لزملائي وللرأي العام في مقالات واحاديث.
ويكفي ـ على سبيل المثال ـ ان انجازات مجالسنا الجامعية ليست الا انجازات ورقية من قبيل وأحيط المجلس علما فحسب وتنعقد مجالس وتكتب اسماء من حضروها ومن غابوا ومناصبهم في ثلاث ورقات او اربع ويكتب مضمون ما انتهى إليه المجلس نفسه في خمسة سطور على اكثر تقدير وهكذا.
وإذا لم ننتبه بشرعة الى ترشيد الانفاق “المالي والوقتي والبشري على حد سواء” في جامعاتنا, فسوف تتراكم مشكلات كثيرة أمام سياسات وخطط تمويل الجامعة في المستقبل القريب جدا بإذن الله.
وقد طالبت كثيرا بتخفيض عدد الأقسام الجامعية ووضع حد اقصى لعدد الاقسام في كل كلية مع عدم الاخلال برئاسة التخصصات, وتجربة قصر العيني والدمرداش في وجود أكثر من عشرة أقسام للجراحة العامة جديرة بالتأمل, لأن طموح البشر المتميزين في الترقي يجب ان تلبى وان تشجع, ولكن دون ان يعني هذا زيادة ترهل الهياكل الادارية, ويكفي ان يكون لكم اقسام الامراض الباطنة مجلس قسم واحد يشمل الخاصة والعامة معا على نحو ما هو متبع في العالم كله, لكن هذا لا يمنع في الوقت ذاته ان يكون هناك رؤساء اقسام معينون و معروفون لكل فرع من الامراض الباطنة دون ان يرتبط هذا بوجود مجالس اقسام للقلب وللاوعية الدموية وللصدر وللطب الطبيعي, وللامراض المتوطنة, وللجهاز الهضمي, ولامراض الغدد, ولامراض الكلى, ولامراض الدم, ولامراض المناعة وللامراض العصبية وللامراض النفسية ولامراض الذكورة وللامراض الجلدية, وللباثولوجيا الاكلينيكية, وللباثولوجيا الكيميائية على نحو ما هو حادث الآن.
وهكذا فإني ألخص الموقف في زيادة الاعتراف بالتخصصات دون ان يعني هذا زيادة التقسيمات الادارية وكثرتها الى حد الترهل في النهاية.
ولربما اجد نفسي مضطرا الى ان اكرر مفهومي المماثل الذي شرحته على مدى مقالات كثيرة ” في موضوع آخر” من موافقتي على زيادة الوزارات مع مطالبتي بتقليل عدد الوزراء....كما اني اطالب بزيادة عدد الجامعات دون زيادة عدد طلابها, وانما بتوزيع ما هو موجود ومكذس الآن على بيئات ومواقع اكثر.
وعلى نفس الخط فاني اطالب بالغاء وظائف نعرف جميعا مدى هامشيتها بل ربما تعويقها لسير العمل العلمي الحقيقي في كثير من الاحيان ونوفر الموازانات والموارد المخصصة لهذه الوظائف….واللجوء الى النظام الامثل الذي يجعل اقدم العمداء بمثابة نائب رئيس جامعة “ورئيس الجامعة بالنيابة” في نفس الوقت الذي يحتفظ فيه بالعمادة, ودون ان يكون له مكتب او جناح في رئاسة الجامعة, وبنفس المنطق يكون اقدم رؤساء الكلية بمثابة وكيل الكلية “وعميدها بالنيابة” في فس الوقت الذي يحتفظ فيه برئاسة القسم وهكذا.
ولنذكر حقيقة مهمة ربما لا يدريها معظمنا ولا يحيط بها اكثرنا وهي ان القضاء الذي نطالب بان نطبق نفس جدول مرتباته قد اجاد منذ حد بعيد تنظيم الموارد المتاحة له دون تعارض مع الطموح, ورئيس محكمة النقض وهو رئيس مجلس القضاء الاعلى وقاضي القضاة يرأس بنفسه دوائر في محكمة النقض, وكذلك يفعل كل رؤساء محاكم الاستئناف, كما ان هناك ـ على سبيل المثال ـ درجتين مختلفتين في معناهما الوظيفي وهما رئيس الاستئناف بمحكمة استئناف القاهرة ورئيس محكمة استئناف القاهرة كله.. وهكذا يمكن للطموح ان يمضي دون تدمير الموارد.
ولو ان رجال القضاء سلكوا مسالكنا في خلق وتفريخ ومضاعفة الوظائف الوهمية ما استطاعو العمل ولا الانجاز ولا الحفاظ على الموارد المختلفة المتاحة لهم…ولكنهم لحسن الحظ يعرفون بأكثر مما نعرف ان الموارد في النهاية محدودة, وأن التوافق معها هو الاساس في كل نجاح في تطوير الهيكل الوظيفي لطائفة متميزة.
بقي ان احذر بصوت عال اننا اذا لم ننتبه الى هذه الحقيقة الجوهرية فسوف نواجه في السنوات القادمة باجراءات كثيرة تحد من قيمة كل ما نبذل او نظن اننا نبذل.
ومع هذا فيبدو لي اننا نفضل عدم الانتباه ….ولالبرتو مورافيا قصة عنوانها “الانتباه” لكن مضمونها قد يوحي لبعض القراء بأن الإنتباه كان مؤلما, وان عدم الانتباه كان نعمة ولم يكن نقصا.
للعودة إلى بداية المقال إضغط هنا