تاريخ النشر : 16 مايو 2015
تتداعى إلى الأذهان قصص كثيرة عن الحروب الدينية والحروب المذهبية، فيتعجب القراء والمراقبون من مدى الضلال الذي يذهب بحكمة من يفترض فيهم أنهم دعاة للحق فيدفعهم إلى أن يستجيبوا للباطل القاتل ويدفعوا الناس إليه.
لكن هذا التعجب سرعان ما يزول حين يطالعون الأدبيات والنصوص التي يؤمن بها زعماء الحروب الدينية حتى يكاد التعجب نفسه يثني على التزامهم بما يؤمنون به، ودفاعهم عما يعتقدونه، ومع هذا فإن القارئ لأحداث التاريخ يستطيع أن يكتشف أيضا أن الحروب الدينية كانت ستارا ممتازا ومفيدا لكثير من النزاعات الإقليمية والأطماع التوسعية.
ونحن نكتشف في ربع القرن الأخير أمثلة كثيرة على اللجوء للدين لتبرير الصراع أو لحسمه أو للتدخل فيه أو لصناعته من الأساس، وربما أن هذا اللجوء يتخطى حواجز تقليدية تبدو صلبة وعصية على الاختراق، لكنها سرعان ما تنهار أمام ورقة الدين.
ومن الأمثلة الساطعة على هذه الحقيقة موقف بعض زعامات فرنسا العلمانية المتكرر من معظم الصراعات الأفريقية والآسيوية، وفي هذا الصدد فإن الرئيس الفرنسي الأسبق “فرانسوا ميتران “وهو اليساري (المنكر للأديان حسب الانطباعات المعروفة) لجأ بنفسه إلى الحديث المؤكد عن مسؤولية فرنسا عن حماية الكاثوليكية خاصة في لبنان
وفي مقابلة متوقعة مع مثل هذه التوجهات نرى البراغماتيين يندفعون (في تصريحاتهم أو تسريباتهم) إلى التعبير عن ضجرهم من أن تبقى الأديان مصدرا من مصادر هدم الإستراتيجيات المتآمرة التي تعبر عن نفسها باستقرارات زائفة تستند إلى سطوة ديكتاتوريات طاغية من قبيل ما فعله اليوسفان: “جوزيف تيتو” في الاتحاد اليوغسلافي و”جوزيف ستالين “على نطاق أوسع في الاتحاد السوفيتي.
وهنا تندفع مباشرة وبصورة فورية إلى أذهان من يتمتعون بثقافة تاريخية واسعة مبررات قوية تدعو إلى الإعجاب بالموقف الليبرإلى العظيم الذي تفوقت به الامبراطورية العثمانية طيلة قرون عاشت فيها فكرة التسامح الديني ناصعة ومثمرة، حتى نجحت الأحقاد في تحطيم من أعجبوا بها من شعوب اندفعت إلى الصراع مع العثمانيين بلا رؤية ولا روية وبلا نبل، فازدادت معاناة هذه الشعوب بالتزامن مع ما أحدثته صراعاتها من آثار سلبية في كيان الدولة العثمانية وصورتها.
وهو الأمر الذي يتجلى بوضوح في قصة الأرمن الذين لا يزالون يعيشون بامتيازات تاريخية في بلاد الإسلام لكنهم يعانون في غير بلاد الإسلام، ومع هذا فإنهم يفضلون أن يستجيبوا من آن لآخر للدعوات الدينية التي تدفعهم لإعلان الحقد على الإسلام والعثمانيين فيهدمون بهذا خطوات عملاقة حقا من جهود حكمائهم وعقلائهم في سبيل صياغة علاقاتهم كأقلية ملتزمة في نسيج إسلامي منصف ومتسامح.
ولا يزال الأمر يتجلى على سبيل المثال بوضوح في مصر الذي حافظت للأرمن على استقلال كنائسهم ومؤسساتهم الاجتماعية والتعليمية بل والرياضية والترفيهية، بما لم يتوافر لهم في الديمقراطيات الأوروبية.
وليس ببعيد أن أرمينيا قحا هو نوبار باشا وصل إلى رئاسة الوزارة في مصر وأن زوج ابنته تيجران وصل إلى منصب وزير الخارجية، ومع هذا فإن بعض الأرمن البارزين لم يتخلصوا قط من محاولات توظيف مواقعهم لتمييز طائفتهم، إلى حد أن الجزء الذي خصصته فرنسا لمصر في المدينة الجامعية في باريس قد سلب من شباب مصر على يد نوبار لمصلحة الأرمن. وهو وضع لا تزال آثاره قائمة.
وعلي صعيد متصل فإن المد الإسلامي نفسه قد ورث من الشعوب التي انتشر فيها كثيرا من طبائع السلالات البشرية النازعة إلى التناحر والاقتتال المستمرين، مما يميز الرعاة الفطريين في ترحالهم الذي يستبدل استقرارا باستقرار آخر، وقد وصلت النزاعات المذهبية في بعض العصور بأصحابها من المسلمين إلى أن يعتبروا مساجد متبعي المذهب الآخر بمثابة كنائس لا مساجد.
وليس يخفى على أحد أن الأسانيد التي يلجأ إليها بعض زعماء الفرق الإسلامية في تكفير مخالفيهم أسانيد قوية وكفيلة بالإقناع والانصياع: إقناع التابعين وانصياعهم، بل إن حقائق التاريخ تدلنا بوضوح على أن الدول الإسلامية التي نعرفها في المصطلح السياسي لم تنشأ إلا بفضل حركة وحركيات هذه المذاهب سواء في ذلك الدولتان العباسية والفاطمية والمملكتان السعودية والمغربية.. الخ.
يقودنا هذا كله إلى الدعوة إلى محاولة تفتيح الأذهان في تعاملنا مع ما هو قادم من أحداث سياسية تبدو وكأنها تجمع في الوقت نفسه بين النتيجة والحل، ذلك أن مقدمات كثيرة أصبحت تقود إلى ضرورة القبول بصيغ جديدة في تكوين الدول (بمعناها القانوني) من الكيانات السياسية القائمة بقوة الأمر الواقع، أو بقوة الأمر المتوقع.
ولست أقصد بهذا كيانا معينا من قبيل ما هو موجود في مناطق الأكراد والشام والعراق، ولكني أقصد أن أقول إن النزاعات الدينية والمذهبية قد مضت بنا في طريق واسع بعيد عن طرق الماضي التقليدية.
وهكذا فإن محاولات الأمم المتحدة للحفاظ على الأوضاع القائمة أصبحت أقرب إلى العقم منها إلى الإثمار، كما أن هذه الجهود أضحت غير قابلة للتصعيد ولا للتكثيف، ذلك أنه في ظل قوة البرلمانات الغربية فإن أي محاولة أميركية لتوظيف الأمم المتحدة (في حل النزاعات الإقليمية بالقوة بطريقة أكثر تكثيفا) سوف تنهي وجود الأمم المتحدة نفسها، وهي نتيجة مؤسفة لكنها تلقى كثيرا من الاستحسان إلى حد يمكن معه أن توصف بأنها نتيجة مستحبة.
وفي كل الأحوال فإننا نكاد نخلص الآن إلى حقيقة مهمة، وهي أن عوامل الحسم التاريخية قد راوحت في مكانتها وفعاليتها.
فالعامل الأول وهو الدين قد استعاد ألقه وجاذبيته وتأثيره الحاسم رغم كل الهراء النظري والانقلابي، بل إن الثورات المضادة والانقلابات كانت هي نفسها صاحبة الفضل الأوفى في إعادة التنبيه إلى مكانة الدين.
أما العامل الثاني وهو السلاح فقد أظهر لأول مرة في العصر الحالي انصياعه التام وغير المفهوم للجماهير لمعسكر اللادين، وهكذا سقطت أطروحة الجيوش المدنية والحيادية للأبد، وكان للثورات المضادة أيضا اليد الطولى في إسقاط جيوش عربية من مكانة تقليدية معتبرة إلى مواضع أخرى تتميز بانتشارات المستنقعات والوحل والماء العكر على اختلاف في الدرجة والتدريج والتدرج، وساءت الصورة أكثر بما انحدر إليه جنرال ليبي متقاعد دخل ساحة الوغى للأسف من باب خلفي ضيق لا يقود إلا إلى بئر لا قرار له.
أما العامل الثالث وهو القانون (بما في ذلك القانونان الدولي والأممي) فقد راوح في موقفه بين الخضوع المندفع لهيمنة السلاح من ناحية، ولجاذبية اللادين من ناحية أخرى، وكان دافعه في الحالين براغماتيا بحتا، ففي حالة السلاح انطلق من مفهوم المصالح المتبادلة بين القانون والسلاح، وهي علاقة جذابة لكنها في معظم أوقاتها علاقة قابلة للالتباس والانتكاس بفعل عوامل سيكولوجية ودنيوية متعددة ومتداخلة.
وفي حالة اللادين فقد كان القانون يرنو إلى حلمه الأبدي في أن يحل محل الدين، وهي محاولة فاشلة، لكن لها من البريق ما يدفع إلى تجربتها مرة بعد أخرى، ومع أن هذا العامل كان حريا بأن يحاول التصالح مع العامل الأول وهو الدين فإن تراث تثبيت الأمر الواقع وتكريسه كان بمثابة حائط صد قوي ضد هذا التصالح الذي أصبح بعيد المنال على أهل القانون أنفسهم.
تم النشر نقلا عن موقع الجزيرة نت
لقراءة المقال على موقع الجزيرة.نت اضغط هنا
للعودة إلى بداية المقال إضغط هنا