تاريخ النشر : 09 مايو 1999
جريدة : الأهرام
تناولت في مقالي السابق ( الأهرام 8/3/1999 ) الجوانب المعرفية في حوادث الطرق،وأرجو أن أمس اليوم الجوانب السلوكية،ومن حسن الحظ أن الدين الذي تقوم عليه حضارتنا الإسلامية قد نبهنا مبكرا إلى حق الطريق،وقد كان الحديث الذي رواه الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم من الأحاديث التي تتضمنها النصوص المقررة في المرحلة الإعدادية ولست أدري هل لا يزال هذا الحديث مقررا أم أن المنهج قد تأثر بالبيئة المحيطة.
ذلك أننا للأسف الشديد أصبحنا بعيدين تماما عن الإيمان بحق الطريق ونحن نتعدى على الطريق من وسطه ومن جانبه بأشياء كثيرة لا تحدث في أي مجتمع متحضر،وكعادة الاستثناءات المقننة تبدأ بما هو هين وتنتهي بأن تصبح هي القاعدة،ويبدو أن النسق العرفي للشعب المصري في نهاية القرن العشرين أصبح محتاجا إلى التأكيد على أن إلغاء الاستثناءات مسألة مبدأ وليست مسألة نسبية،ونحن نرى أشغالات الطريق وانتظار السيارات في داخل القاهرة والإسكندرية تصل بالضيق القائم في الطريق إلى أن يصبح المتبقي الصالح منه للسير متراوحا بين 25بالمئة- 33 بالمئة على أقصى تقدير وذلك بعد استغلال جانبي الشارع لانتظار السيارات عموديا على الرصيف وأحيانا في صفين وهكذا لا يتبقى من نهر الشارع بعد ذلك إلا ربعه أو ثلثه على أكثر تقدير،ويدوم هذا الوضع بالليل وبالنهار وأصبح حقا مكتسبا لا نستطيع أن نتصور أنه سيتغير أو يتقلص فضلا عن أن يزول،وهكذا تحولت ممرات أو مسارات ( المرور ) إلى مخازن ( الانتظار طويل المدى ) أو مستودعات ( الانتظار قصير المدى ).
وقد انتقل هذا الوضع ” القدوة ” إلى الطرق القومية جميعا فأصبح من المعتاد أن تلجأ الإدارات الحكومية قبل الأهالي إلى نهر الطريق لتوظيفه في وظائف أخرى غير وظيفة المرور السريع ،ولست بحاجة إلى أن ألفت النظر إلى أكشاك نقابات النقل البري التي تحصل الرسوم المفروضة لصالح هذه النقابات،وإلى أكشاك أخرى عند نهايات المدن الكبرى،وعند الحدود الإدارية الفاصلة بين كل محافظتين ثم تأتي المحطات المحلية لتقتطع من الطريق مايثبت لها ولنا أنها محطات على الطريق السريع،تأمل هذا الذي تراه مثلا عند ” إيتاي البارود ” حتى ينقطع فجأة تدفق السيارات المارة في الطريق الزراعي بين العاصمتين الكبيرتين لا لشيء إلا لأن السيارات التي تتخذ من الطريق محطة مشغولة بتضبيط نفسها عمودية على الطريق،ويستحيل أن تخلو ساعة بل دقيقة من النهار من هذا التوقف المقيت عند ” إيتاي البارود “،وقل مثل هذا في شربين على طريق بور سعيد-المنصورة،وفي ” كفر شكر “على طريق المنصورة-بنها،وفي منيا القمح على طريق بنها-الزقازيق….وهكذا وهكذا.
ولا ينكر احد أن مثل هذه التقاطعات تهيئ الفرصة لكثير من حوادث الطريق بطريق مباشر،ولكن الذي يفوتنا أن ننتبه إلية أن أثرها غير المباشر أكثر ضررا لأنها مع تكرارها ومع طولها تصيب أعصاب قائدي السيارات بالاضطراب الشديد والتوتر وارتفاع ضغط الدم الذي ينعكس بطريق مباشرة وفورية على أداء القائدين في المسافات التالية لهذه التقاطعات المزعجة.
ويخطئ من يتصور أن ” الاحتياطي الذهني المتوافر “لدى قائد السيارة يظل ثابتا طيلة المدة التي يقطعها في رحلته ،وفي الحقيقة فإن رصيد هذا الاحتياطي الذهني يتناقص مع الزمن،ويصاب بالتآكل الشديد مع المواقف الكفيلة باستنزافه ،وعن تجربة شخصية فإني في كثير من الأحيان أتوقف تماما عن القيادة قبل وصولي إلى نقطة النهاية لأني لا أجد عندي رصيدا قادر على إمدادي بالقدرة على القيادة السليمة والآمنة في الفترة المتبقية من الطريق ولا أستأنف القيادة إلا بعد معالجة نفسي وإعادة تأهيلها.
وحين لا ينتبه الإنسان إلى نفاذ هذا الرصيد فإنه يبدأ مباشرة في الوقوع في الخطأ دون أن يدري انه يخطئ بالفعل،ولو أتيح لنا أن نأخذ نصوص حكايات قائدي السيارات الذين ارتكبوا أو تعرضوا لتوهم لحوادث الطرق وأن نحلل هذه النصوص بطريقة علمية ونفسية ،فسنكتشف هذه الحقيقة المذهلة وهي أنهم أخطئوا أو تعرضوا للخطأ دون أن ينتبهوا لذلك.
ولعلي أفضت في الحديث عن الجزئية السابقة بما يكفي لفهم الآثار السلبية أو غير المسئولة،وتؤدي في النهاية إلى ارتفاع نسبة الحوادث ولنأخذ على سبيل المثال السيارات التي تسير بدون العواكس الخلفية،ومنها نسبة كثيرة من سيارات الكارو وما شابهها.
وهكذا يصبح من المفهوم مدى أهمية إخضاع هذه السيارات الكارو للرقابة الصارمة فيما يتعلق بالعواكس الخلفية….ومع هذا فإن الطرافة المتأصلة في نظمنا قد تدلنا على ان هذه العربات الكارو لا تتبع المرور ولا تخضع لسلطته ولا تحتاج قيادتها إلى رخصة قيادة.
والأطرف من هذا ما يرويه كثير منا من أن هؤلاء يتحولون بحكم التطور الزمني إلى قائدي ميكروبا صات أو قائدي سيارات نصف نقل ناقلين معهم تراث الجهل بآليات المرور وعدم التقدير الكافي للمخاطر التي قد تنشأ عن مثل هذه الأخطاء البسيطة….وعلى الرغم من أن هذا قد يكون صحيحا بصورة عامة فإنني إحقاقا للحق أستطيع أن أؤكد أن من بين هؤلاء الذين يقودون الكارو والحناطير من يفهم ويتبع قواعد وقانون المرور بأفضل من قائدي بعض السيارات الفاخرة.
وليس هذا مجالا لإيجاد طبقيات أو صراع طبقات ولكني أحب أن أنبه إلى التحذير من بعض التعميمات التي قد تقود في النهاية إلى الخطأ المضاعف.
ولعلي أنتقل بعد هذا إلى النموذج السلوكي الثالث المتمثل في إصرارنا على تعقيد المشكلات الطارئة حين تقع في وسط الطرق السريعة،فتجد ذوي الشخصيات الفهلوية يلجأون بسرعة إلى استعمال الاتجاه المخالف من الطريق لتجاوز موضع الأزمة ،ثم غنه في ظل التسابق والاندفاع إلى استعمال الاتجاه المخالف يتوقف الاتجاه المخالف هو الآخر تماما،ويصاب الطريق السريع بالشلل في ناحيتيه،وتتضاعف المشكلة في عجز أغلب سيارات الإسعاف والنجدة والأوناش عن الوصول إلى موقع الحادث لحل المشكلة ويكون عاديا جدا أن يؤدي حادث تصادم واحد إلى توقف الطريق السريع كله لمدة ست ساعات،وينشر هذا في اليوم التالي في جميع صحف الصباح،ويقرؤه الناس جميعا دون الانتباه إلى أن الجريمة اللاحقة تفوق في بشاعتها الجريمة الأولى….ولا يقف الأثر المباشر لمثل هذا السلوك عند هذا الحد،وإنما نراه الآن وقد أصبح يوجد اتجاها خطيرا وهو ضرورة العمل على تأمين مواكب سيارات كبار المسئولين من طبقة الوزراء حين يزرون المحافظات حتى لا يتعرضوا لمثل هذا الموقف الذي يضطرون إلى الانتظار فيه لمدة ست ساعات حتى يعود الطريق إلى حالته،وهكذا تصبح إدارة الطريق ذات مستويين، المستوى العادي القابل لحدوث هذه المفاجآت غير السارة….والمستوى المتميز الذي يتاح عند الحاجة فقط ويقتضي تعبئة شرطية على مستوى كفيل بالتعامل المباشر مع الاختناقات بالطريقة الكفيلة بتحقيق السيولة التي من المفترض أنها من طبائع الأشياء ولكنها باتت للأسف الشديد لا تتحقق إلا بتعبئة شرطية على مستوى معين.
ولست أحب أن أضرب للقراء أمثلة كثيرة على أن الشرطة المصرية والمرور المصري قادر تماما بتعبئة معقولة وغير مكلفة على تحقيق إنضباطات نموذجية على جميع مستويات المرور لو أننا لبينا لرجاله طلبات محددة وعملية وغير مكلفة….ولكني سأكتفي بنموذج مضيء واحد وهو ما تحقق في أثناء مؤتمر السكان الدولي الذي انعقد في القاهرة منذ أربع سنوات وكان ولا يزال مضرب الأمثال في إمكانية تحقيق السيولة والانسيابية والسرعة والآمان،وكلي أمل أن نعود إلى تكرار تطبيق جزئيات وتفصيلات هذا النمط وإخراجه بأقصى سرعة إلى حيز التطبيق العملي مهما كانت تكن وهي معقولة وفي المتناول بالفعل.
للعودة إلى بداية المقال إضغط هنا