المصدر : المجلة الثقافية ( العدد 62 )
لا أستطيع أن أزعم أني اكتشفت أهمية الببليوجرافيا للبيوجرافيا من خلال دراستي أو بحثي،ولو أني زعمت هذا لكنت مبالغا،بل لكنت مدعيا،فقد فطرت-ولست أدري متى فطرت- على أن البيوجرافيا لا تستقيم ولا تكتمل بدون الببليوجرافيا،وعلى أن الببليوجرافيا لا تبدأ ولا تنطلق بدون البيوجرافيا….وقد حاولت أن أبحث في العوامل السابقة على الفكرة التي فطرت عليها فإذا بي أجد التراث العربي نهلنا منه أو تكونا عليه قد كان واعيا وداعيا لهذا المعنى دون إدعاء،فإذا به ينير الطريق للعالم كله مؤسسا لعلم الببليوجرافيا تأسيسا مبكرا،ومقدما هذا العلم العظيم مع علم البيوجرافيا في صورة لا يمكن وصفها بأدق من التعبير الذي نصف به جيناتنا الوراثية،وقد ازدوج فيها لولب يحمل صفات موروثة من الوالد، وصفات أخرى موروثة من الوالدة،وإذا كل مقتطع عرضي من هذا اللولب العظيم يحمل من معلومات الشفرة ما تتكون به صفاتنا الجسدية والعقلية والروحية كذلك.
ولست أحب المضي في الطريق الذي ينسب كل إنجاز غربي إلى إنجاز عربي سابق عليه،ولو أني مضيت في هذا الطريق لو وجدت أمامي ملمحا بارزا فيما فعله ابن النديم أول الببليوجرافيين الذين نعرفهم في التراث العالمي كله،وقد تبدي هذا الملمح فيما بعد فيما اختطه الأمريكي العظيم ” ديوي” من أسلوب مكتباتي في تقسيم المعرفة الإنسانية بطريقة عشرية،وليس سرا ولا حكرا أن “ابن النديم” في كتابه ” الفهرست “ كان سباقا إلى تقسيم كتابه إلى عشر مقالات من الأولى بنا أن نسميها أبوابا أو أجزاءا أو أقساما،لكن تعبير المقالة مع جماله كان سائدا للدلالة على المعنى المقصود،وليس أدل على هذا من استخدام ابن النديم نفسه له.
وقد عرف ابن النديم التقسيم الفرعي لكنه بحكم علمه لم يتعسف في تقسيم كل عشر إلى عشرة أعشار أصغر منه،ولو فعل ما كان بقى لديوي فضل في التقسيم الذي يعرف باسمه حتى الآن في علوم المكتبات ،بل في المكتبات أيضا.
ومن الإنصاف أن نشير إلى أن تقدم المعرفة وتقدم المعلوماتية قد أصبحا يدفعان الإنسانية إلى أن تعيد النظر في طرائق التقسيم الببليوجرافية السابقة بما فيها الطرق الأمريكية المتبعة في مكتبة الكونجرس وغيرها،كما أن ازدياد العناية بالتراث العربي وخصوصياته سيدفع الببليوجرافيين العرب إلى وضع تصورات أكثر دقة لقوائم رؤوس الموضوعات على سبيل المثال،وربما أن هذا بحاجة إلى خصوصية عربية في التعامل مع الببليوجرافيا تبعا لمعطيات التراث العربي الضخم الذي لا يزال رغم كل الجهود بمثابة كنز كبير ،وربما أن كتاب ” الفهرست “ نفسه يدلنا دلالة قاطعة على هذا المعنى ، إذ أن ” الفهرست “ كتاب بيوجرافي ببليوجرافي من طراز متقدم ومتفوق،ومع هذا فإنه يحظى بأثر مهم من آثار الكتب السابقة عليه في التعريف بالعلوم تعريفا إجماليا يفصل بينها وبين غيرها من العلوم التي تشتبك معها في كثير من المناطق.
ومن الطريف أن نشير إلى أننا أصبحنا في جامعاتنا العربية أحوج الناس إلى مثل هذه المراجع التي تفصل بين العلوم المختلفة أو بين التخصصات المختلفة،وبخاصة إذا ما صادفتنا مشكلة علمية –بيروقراطية تتعلق بالتخصص والتخصص الدقيق،ذلك أن العلم عندما يتحول إلى وسيلة لكسب العيش أو الرزق يحمل معه مشكلات مادية بحتة من قبيل : من الأولى بمنح الإجازة فيه؟ وربما تخترع الحاجة موضوع بحث جديد فلا يمكن الفصل في تبعيته إلا بالعودة إلى التعريفات المانعة الجامعة التي تشير إلى مكان العلم الجديد من العلوم القديمة المستقرة.
ومن العجيب والطريف ان علماءنا العرب كانوا من دون أن يواجهوا مشكلاتنا الصغيرة منتبهين إلى الضرورة الإيستمولوجية لمثل هذا التعريف والتحديد على نحو ما نرى ابن النديم يصنع في كل مادة يتناول علماءها مؤلفاتهم ،بل إنه يلزم نفسه في كل الأحيان – ولا نقول في بعض الأحايين- بان يقدم العلاقة المنطقية بين ارتباط مجموعات العلوم المتضافرة في تقسيمه هو.
للعودة إلى بداية المقال إضغط هنا