تاريخ النشر : 1992
المصدر : مركز الوفد للدراسات السياسية والإستراتيجية.
تواجه الجامعة المصرية شأنها شأن مؤسساتنا المختلفة عدة مشكلات حادة نتيجة المتغيرات السياسية والتحولات الاقتصادية والاجتماعية في نهاية القرن العشرين والعجز الواضح لكل من التشريع والنظام الإداري عن مواكبة هذه المتغيرات والتحولات.
وعلاوة على هذا تواجه الجامعة أيضا عدة مشكلات خطيرة كان لا بد لها حتى بدون هذه التحولات بحكم ماضيها وحاضرها القريب أن تعاني منها نتيجة للسياسات الحاكمة التي ضبطت تشريع وتنظيم وتسيير الجامعة المصرية منذ نشأتها في1908 وحتى بعد مضي 85عاما في1993.
الهرم المقلوب:
تمثل مشكلة انقلاب الهرم الوظيفي بين أعضاء هيئات التدريس في الجامعة أبرز التحديات أمام إصلاح الجامعة المصرية والعودة بها إلى مصاف دور العلم والبحث العلمي الهادف.
وليس من شك في أن تنظيم الهيكل البشري في المؤسسات العلمية هو العامل الأول في تحديد قدرة هذه المؤسسة العلمية على العطاء المتميز وفي غياب تنظيم الهيكل البشري يمكن للجامعة أن تعطي ولكن عطاءها في هذه الحالة لن يكون مؤسسيا،بل ربما لن يكون منهجيا كذلك، وسيصبح في الغالب كما هو الآن شذرات متناثرة بل ومتنافرة من بحث علمي في ظاهره بينما هو ذاتي إلى أبعد حدود الذاتية وأن اتخذ شكل العلم بحكم معرفة القائمين عليه بالشكل ،وتكون النتيجة الحتمية أن المجتمع يجد مشكلاته جميعا وقد تعرضت لبحوث جامعية من دون أن تكون هناك نتائج قابلة للتطبيق من أجل مواجهة –ولا أقول حل- هذه المشكلات وهذا هو جوهر ما يحدث في مصر الآن.
الهرم المقلوب في تزايد مستمر :
ومن المؤسف أن الهرم المقلوب يزداد انقلابا عاما بعد عام،فالمشكلة إذن ليست مشكلة مؤقتة يمكن التغلب عليها بحلول مسكنة أو وقتية ، ولا هي مشكلة طارئة يمكن التغاضي عنها حتى يتم تجاوزها ، ولكنها للأسف الشديد مشكلة متنامية ومرتبطة تماما بجوهر نظام الجامعة الذي يحكمه الآن ومنذ عشرين عاما قانون متكامل وجيد هو القانون 49 لسنة 1972 بتنظيم الجامعات المصرية.
وقد يكون من التجني أن نقول اليوم أن السبب الجوهري في هذه القضية كان اتجاه المشرع في القانون 49 لسنة 1972 إلى ما اتجه إليه من إطلاق عدد درجات الأساتذة فضلا عن تخفيض المدد اللازمة للترقي فيما الوظائف الثلاث التي تكون هيئات التدريس ( أستاذ- أستاذ مساعد- مدرس) والوظيفتين الأخريين اللتين تهيئان المرء ليكون عضوا بهيئات التدريس ( مدرس مساعد – معيد) .
ودون أن أتطرق بالقارئ إلى تفصيلات النظم الجامعية العالمية وتطور النظام الجامعي المصري في هذا المجال سأكتفي مؤقتا بتلخيص ما انتهى إليه الموقف في الجامعة المصرية الآن على وعد بالعودة إلى هذه التفصيلات عند مناقشة الحلول المقترحة.
العقم المبكر:
لعل أدق وصف لما أدى إليه القانون الحالي هو أنه استطاع أن يصل بشباب هيئات التدريس إلى حالة من العقم المبكر حين أتاح لهم أو أضطرهم إلى العمل على التجاوب الناجح مع القانون بالحصول المبكر على درجاتهم الجامعية الأولى (البكالوريوس : معيد) والثانية (الماجستير : مدرس مساعد) والثالثة ( الدكتوراه : مدرس) والرابعة (أستاذ مساعد) والخامسة (أستاذ) ثم الوقوف عند هذا الحد.
وبلغة السن يمكن القول أن متوسط الوصول إلى الأستاذية في الجامعات الإقليمية لغالبية أعضاء هيئات التدريس كان حوالي 40عاما يرتفع في الجامعات الكبرى إلى 42 عاما على أكثر تقدير ، ويختلف هذا المعدل بالطبع مابين كلية وأخرى.
وقد سجلت كليات الطب البيطري أسرع المعدلات على حين سجلت كليات التجارة أبطأ المعدلات على عكس ما هو متوقع في الكليتين….
وفي الكلية الواحدة نجد اتجاها عاما إلى الاعتقاد بالقول والفعل بأن دكتوراه الكيمياء مثلا أسرع على العموم وعلى الدوام من دكتوراه الفيزياء ، وفي أحيان أخرى كثيرا ما تدخلت العوامل الشخصية البحتة في تحديد هذه المعدلات.
وقد أدى هذا الوضع بالطبع وكنتيجة منطقية لأبسط العمليات الحسابية والإحصائية إلى تكوم أو تكدس الأساتذة لأنهم يشغلون بحكم السن الشريحة السنية فيما فوق الأربعين أو قل ما فوق الخامسة والأربعين على حين أن من يشغلون وظيفة أستاذ مساعد لا يبقون فيها إلا أربع أو خمس سنوات على الأكثر أي أنهم لا يشغلون إلا شريحة سنية توازي ثلث أو ربع الشريحة المتاحة في حالات الأساتذة ، وقل مثل هذا في حالات أخرى…….
والأدهى والأمر أن المعيد في كليات الطب لا يبقى في الأغلب الأعم في وظيفة أكثر من يوم واحد يرقى بعده إلى مدرس مساعد بحكم أنه لا يعين معيدا إلا بعد قضاء 3سنوات في وظيفة طبيب مقيم وهي مدة كافية لحصوله على درجة الماجستير.
الأرقام تتحدث :
وهذا الكلام ليس كلاما نظريا ولكن الأرقام التي سنوردها حالا هي خير دليل على صحة ما نقول ، وقد اخترت أن اضرب للقارئ المثل الأول بجامعة القاهرة وهي الجامعة الأم حيث بلغ عدد الأساتذة في العام الدراسي(77/78) 630 أستاذ على حين كان عدد المعيدين 1631 معيدا ، وفي العام الدراسي( 89/90) أي بعد 12 عاما فقط بلغ عدد الأساتذة 1446 على حين انخفض عدد المعيدين إلى 1282 معيدا وينتظر إذا سارت الأمور على ما هي عليه الآن أن يبلغ هذا العدد في العام الدراسي (1999/2000) ثلاثة آلاف أستاذ ، وألفا وسبعمائة أستاذ مساعد وألفا ومائتان مدرس أي حوالي ستة آلاف عضو هيئة تدريس على حين يكون عدد المعيدين لا يزال في حدود 1300 معيد وكذلك المدرسون المساعدون وبهذا تصبح نسبة عدد أعضاء هيئات التدريس ومعاونيهم إلى الطلاب مع حلول عام 2000حوالي1001 على أقصى تقدير.
على مستوى الجامعات الإحدى عشرة جميعا ستكون صورة المأساة أكثر وضوحا حين يبلغ عدد الأساتذة في العام الدراسي (1999/2000) حوالي تسعة عشر ألفا ،وحين يكون عدد الأساتذة المساعدين قرابة تسعة آلاف والمدرسين قرابة سبعة آلاف….
ما يهمنا هنا من ناحية الهرم رقم الأساتذة التسعة عشر ألفا الذين من المفترض أنهم يناظرون طبقا لمعادلات الكادر الخاص لرجال الجامعة بالكادر العام للعاملين بالدولة وبكادرات السلك القضائي والسلك الدبلوماسي والبوليس والجيش….ولك أن تتخيل أن في القضاء 19 ألفا مستشار، وفي الخارجية 19 ألف سفير، وفي البوليس 19 ألف لواء، وفي الجيش 19 ألف لواء ……….
على هذا النحو ؟وهل وهذا هو الأهم يكون من حق صاحب وظيفة أستاذ الجامعة أن يزعم لنفسه عند ذلك أو للناس أنه يناظر أي درجة من هذه الدرجات :السفير – المستشار – اللواء – وكيل الوزارة؟
بالطبع ستنخفض درجة معادلة أستاذ الجامعة إلى مستوى الدرجة الأولى من الكادر العام أو أقل قليلا لأنها بالطبع وفي ظل هذه الأعداد لا يمكن أن تتوازى مع الدرجات التالية لدرجة قمة الهرم الوظيفي في الكادرات الخاصة والعامة درجات المدير العام أو مستشار السفارة أو رئيس محكمة أو رئيس نيابة أو عميد الجيش والشرطة وهذه هي النتيجة المنطقية للتشريع قصير النظر الذي بدأ فدغدغ مشاعر أسرة الجامعة في1972 وما بعدها فانتهى إلى دغدغة النظام الجامعي نفسه اليوم وغدا.
حلول غير واقعية:
كثيرا ما يثور اللغط في الوسط الجامعي باقتراح زيادة المدد اللازمة للترقي إلى ست أو سبع سنوات في كل من درجتي أستاذ مساعد و أستاذ ولكن مثل هذا الحل سرعان ما يواجه بالوأد لأنه من غير المنطقي ولا العدل أن تجعل من ترقى على معدل السنوات الأربع يتحكم في ترقية أبناء جيله نفسه على معدل هو ضعف معدله، هذا فضلا عن الاعتقاد اليقيني السائد في جدارة التالين إذا ما قيسوا بالسابقين وهو أمر مجسد تماما في الجامعات الإقليمية.
وفي الفترات الماضية حاولت بعض السلطات المحلية (أي في بعض الكليات دون الأخرى وفي بعض الأقسام دون البعض الآخر) تعطيل بعض أعضاء هيئات التدريس استنادا إلى وجودهم في إعارات خارج البلاد، وعلى الرغم من أن بعض هذه المحاولات قد باءت بالنجاح إلا أن البعض الآخر قد باء بالفشل وبخاصة عندما دعت المصلحة النفعية إلى سرعة التنكر لنفس المبدأ في نفس القسم والعمل على الإسراع بترقية آخرين بنفس القدر من تعطيل الأولين مع دوام نفس الظروف ، وهو ما أصاب القيم الجامعية أمام أعضاء هيئات التدريس بالاهتزاز الزلزالي.
ومن الواضح الآن أن أي حل يقوم على أساس الرجوع بالزمان أو التراجع عن الحقوق المكتسبة بل وحتى المفترض اكتسابها في المستقبل بحكم الوضع القائم لن يكون عادلا، فضلا عن أنها تكف عن دأبها وسعيها في استغلال الجامعة لإدارة صراعها السياسي مع الحكومة بدون أية أخلاقيات اللهم إلا الحرص على الكسب العاجل نظريا.
عودة أستاذ الكرسي :
يتمثل الحل الأقرب إلى الواقعية وإلى التقاليد الجامعية في ذات الوقت في إعادة درجة أستاذ كرسي، وربما درجتي أستاذ الكرسي وأستاذ التخصص.
على أنه لا بد أن يكون واضحا ومفهوما في تشريعنا الذي سينظم هذا الكادر الجامعي أن عودة هاتين الوظيفتين إلى الكادر الجامعي المصري لن تكون في المقام الأول من أجل إعادة وضبط الهرم المقلوب وإنما هذا هو الهدف الثاني، أما الهدف الأول فهو إعادة القيمة العلمية التي افتقدناها منذ سارت الأمور على منوال طابور الجمعية،وحين أصبحت الترقيات نوعا من النشاط الأقرب إلى نشاط وزارة الشؤون الاجتماعية.
وليس هذا هو موضع الحديث عن جوانب هذه المشكلة مع أهميتها القصوى،ولكننا سنتناول في عجالة أبرز الجوانب التنظيمية والإدارية للدرجتين المقترحتين.
درجة أستاذ الكرسي :
درجة أستاذ الكرسي هي الفلسفة العظيمة التي أخذتها الجامعات الأوروبية عن الأزهر عندما بدأت تنظيمها لأنفسها ومن العجيب أن العالم كله لايزال حتى اليوم يقيم الأستاذية في جامعاته على المكانة الرفيعة التي لأستاذ الكرسي إلا بلدا واحدا فقط هو للأسف الشديد البلد الذي بدع فيه نظام أستاذ الكرسي.
درجة أستاذ التخصص :
وهذه درجة أعلى من درجات الأستاذية ولكنها أقل من درجة أستاذ الكرسي،ولكنها لا تعطى إلا بعد إجراء بحوث حقيقية ليست مستمدة بأية صورة من رسائل التلامذة المتقدمين للماجستير والدكتوراة، ومما يقال أن أكثر من 95 بالمئة من أساتذة كلية رفيعة المستوى جدا لم يقوموا ببحث واحد خارج إطار رسائل تلاميذهم في الماجستير والدكتوراة أي أنهم لم يتعدوا بالبحث العلمي مرحلة الماجستير والدكتوراة حين كانوا طلاب ماجستير ودكتوراة ثم حين لم يجدوا ما يقدموه ساعة الترقي إلا بحوثا أخرى.
للعودة إلى بداية المقال إضغط هنا