بقلم : رجاء النقاش
تاريخ النشر : 10 أكتوبر 2004.
تلقيت من الطبيب الأديب العالم الدكتور محمد الجوادي رسالة طويلة وجميلة وعامرة بالمعلومات الغزيرة الدقيقة عن جوانب مجهولة من تاريخنا الثقافي،وفي أول الرسالة يستأذنني الدكتور الجوادي في أن يجيب عن السؤال الذي طرحته في الأسبوع الماضي عن "المجمع اللغوي المجهول" الذي سبق المجمع اللغوي القائم الآن،والإشارات إلى هذا المجمع المجهول وردت في رسائل متبادلة بين عالمين من أعظم علماء اللغة العربية في النصف الأول من القرن العشرين هما : أحمد تيمور باشا (1871-1930)،والأب أنستاس ماري الكرملي (1866-1947).
وقد ابتسمت وأنا أقرأ قول الجوادي إنه يستأذنني،وحول هذا الاستئذان فإنني أقول للجوادي:
تفضل ياأخي،ففي كتابتك علم غزير وأدب جميل وذوق رفيع، وفي هذه الكتابة نشاط وهمة وحيوية،وفي هذا كله ما يليق بمثقف كبير،وأنا أحب معاني الرجولة في "المثقف"،فنانا كان أو باحثا،والرجولة الثقافية هي مزيج من الصدق والجهد والجدية والرضا بالعمل أحيانا في ميادين لا يرضى الآخرون أن يعملوا فيها لقلة نفعها لهم،رغم أنها تكون نافعة لغيرهم من المواطنين.
وصفات الرجولة الثقافية متوافرة كلها في محمد الجوادي الذي لا أعرفه معرفة شخصية حتى الآن،ولكنني أعرفه بالقراءة له ومتابعة جهده الثقافي بإعجاب شديد،فهو باحث لا يهدأ ولا يدخر جهدا في سبيل الدراسة،ولا يهزل،ولا يتطفل،ولا ينشغل بتوافه الأمور.
لذلك كله ابتسمت عندما قرأت في رسالة الدكتور محمد الجوادي أنه يستأذن ليقدم لي ولغيري من طلاب المعرفة بعض معلوماته الغزيرة عن صفحة مجهولة في تاريخنا الثقافي،وهي صفحة المجامع اللغوية التي سبقت قيام المجمع اللغوي الحالي سنة1932.
وأقول للدكتور الجوادي:تفضل يادكتور….فالعصفور لا يستأذن لكي يغني،والنهر لا يستأذن لكي يفيض بخيراته،والجميل لا يستأذن لكي يكون جميلا.
تفضل يادكتور جوادي،وهذه هي رسالتك المهمة والغنية بالمعلومات :
اسمحوا لي أن أشكركم على اهتمامكم بتاريخ المجمع اللغوي والجهود الأكاديمية من أجل لغتنا الخالدة،وليس هذا بجديد عليكم وأنتم من أبرز كتابنا اهتماما بالتاريخ الثقافي،سواء في ذلك التاريخ المكتوب أو التاريخ الذي أهمله التاريخ،واسمحوا لي أن أقدم إجابة متواضعة على سؤالكم الذي تفضلتم بطرحه عن المجامع اللغوية التي وجدت قبل إنشاء المجمع اللغوي بالقاهرة سنة 1932.
وربما جاز لي أن أبدأ بالإشارة إلى أن الفضل الحقيقي في نشأة هذه المجامع يعود إلى إستشراق المثقفين المصريين الرواد لتجارب الدول التي سبقتنا إلى إبداع الصيغ الحضارية الكفيلة بالارتقاء المتواصل والمنظم لعناصر الحياة العقلية والفكرية،وقد كانت التجربة المبهرة للأكاديمية الفرنسية ماثلة أمام أعين هؤلاء جميعا وهي الأكاديمية الفرنسية التي كانت نشأتها سنة 1635 سابقة عن مثيلاتها في العالم كله،ولهذا نرى مثقفينا الوطنيين طموحين إلى مؤسسة مماثلة تقوم للعربية بما قامت به تلك الأكاديمية الفرنسية،وفي زمن كان فيه المثقفون أسبق إلى التقدم من الحكومات كان من الطبيعي أن تجد المحاولات "الأهلية" طريقها إلى النور قبل أن تمتد إليها رعاية الدولة،وهكذا ظهرت محاولات مبكرة متكررة لإنشاء مجمع لغوي عربي قبل أن يتبنى الملك فؤاد الفكرة وتصدر الحكومة في سنة 1932 وسنة 1933 القرارات الخاصة بإنشاء المجمع الحالي،واختيار أعضائه،وتجهيز مقره،وقانونه،ولائحته،ونظام عمله،وتمويله.
والحق أننا نجد في آثار رواد نهضتنا الحديثة وعيا عميقا بضرورة وجود مؤسسة عربية تقوم بمهام المجمع اللغوي في تطويع اللغة لحاجات العصر ومقتضياته،ووضع مجمع اللغة وتطويره،ووضع المصطلحات وتوحيدها،وتبسيط الأجرومية وضبطها،وتسجيل الكتابة والإملاء،وقد حاول رفاعة الطهطاوي نفسه تحقيق بعض هذه الأهداف من خلال مؤسستين كبيرتين هما "مدرسة الألسن" و "الصحافة" متمثلة في جريدة "الوقائع المصرية" ومجلة "روضة المدارس" ويسجل التاريخ أن عبد الله باشا فكري،وقد صار فيما بعد وزيرا للمعارف في وزارة محمود سامي البارودي،وقد دعا إلى إنشاء أكاديمية تصون اللغة العربية في سنة 1881،لكن حوادث الثورة العرابية أجهضت الفكرة،وجاء الشيخ محمد عبده (1849-1905) ليدعو مرة أخرى إلى إنشاء مجمع لغوي على غرار المجمع الفرنسي.
ومن الطريف ،وإن كان ذلك أمرا طبيعيا في تاريخ الحضارة،أن الانتباه إلى أهمية الحفاظ على اللغة العربية قد ازدهر أو تمت إثارته عندما دعا المهندس البريطاني "وليم ديلوكس" إلى الكتابة باللغة العامية بدعوى أنها أقدر على إفهام الجماهير الأمية،ومن المضحكات أن اسم هذا المهندس أطلق على شارع في حي الزمالك،ومن المضحكات أكثر من هذا أن "طه حسين" نفسه كان يسكن في الشارع الذي حمل اسم طه حسين في نهاية الأمر،وبعد ذلك تكررت كتابات السيد توفيق البكري سنة1892 والتي تدعو إلى وجود جماعة تماثل الأكاديمية الفرنسية،مناشدا الخديوي عباس حلمي الثاني،منذ كان وليا للعهد،أن يساند وجود هذا المجمع،ولما نضجت الفكرة اجتمع في دار السيد توفيق البكري بالخرنفش في نهاية 1892 كل من الشيخ الشنقيطي،والشيخ محمد عبده،والشيخ حمزة عبد الله،والشيخ حسن الطويل،وحفني ناصف،ومحمد المويلحي،ومحمد عثمان جلال،ومحمد كمال،وتذاكروا في إنشاء مجمع يؤدي للغة العربية ماتؤديه الأكاديمية الفرنسية للغة الفرنسية،وانتخبوا السيد البكري رئيسا،كما انتخبوا السيد محمد بيرم سكرتيرا للمجمع،وقد أثار هذا المجمع كثيرا من الاهتمام على المستوى الإعلامي،وإليه يعود الفضل في ألفاظ من قبيل: المعطف،والمسرة،والشرطي،والبهو،والقفاز،والمشجب،وفي كتاب الدكتور ماهر حسن فهمي عن محمد توفيق البكري (دار الكاتب العربي للطباعة والنشر1967،صفحات 59-68)،استعراض للنشاط الذي قام به هذا المجمع على مدى عمره الذي لم يستمر إلا شهور،ولمزيد من الإطلاع على التاريخ القصير لهذا المجمع ونشاطه يمكن الرجوع إلى كتاب "صهاريج اللؤلؤ" للسيد توفيق البكري،وإلى دراسة للأستاذ عبد القادر المغربي في الجزء السابع من مجلة مجمع اللغة العربية،وإلى دراسة في مجلة المقتطف "يناير 1928" عن محاولات لإنشاء مجمع لغوي،وإلى مجلة "الأستاذ" لعبد الله النديم،عدد مارس 1893.
أما ثانية المحاولات البارزة التي استهدفت إنشاء مجمع لغوي فكانت سنة1908من خلال "نادي دار العلوم" وقد تولاها عميد تفتيش اللغة العربية والرئيس الأول لمجلس إدارة الجامعة المصرية حفني ناصف،وقد أقيمت من خلال هذه المحاولة ندوة فذة استمرت أسبوعين متواصلين وتناولت القضايا التي لا تزال تشغلنا حتى يومنا هذا،وهو أمر مدهش،وقد شارك فيها من أعلام الفكر:أحمد فتحي زغلول،ومحمد الخضري،وطنطاوي جوهري،وحفني ناصف.
وقد كانت لحفني ناصف بالتحديد آراء علمية كثيرة في نطاق عمل المجمع يمكن للقارئ أن يعود إليها في كتاب "نثر حفني ناصف" للدكتور مهدي علام والأستاذ عبد الحميد حسن،وفي كتاب "محاضرات عن حفني ناصف" للأستاذ محمد خلف الله أحمد،وفي كتاب الأستاذ محمود غنيم عن "حفني ناصف" وفي تقويم دار العلوم للأستاذ محمد عبد الجواد،وحسبنا أن نشير هنا إلى كتاب حفني ناصف "مميزات لغات العرب"وكتابه "الأسماء العربية لمصطلحات الألفاظ الحضارية".
ويمكن لي القول باختصار شديد،بأن مجمع دار العلوم أو المجمع اللغوي الثاني قد ركز اهتمامه على القضايا الأصولية الكبرى،وذلك في مقابل تركيز المجمع الأول على وضع الألفاظ العربية المقابلة للألفاظ الأجنبية.
أما ثالثة المحاولات لإنشاء مجمع لغوي فقد تمت بين سنة1916 وسنة1917 سٌمي هذا المجمع باسم "مجمع دار الكتب"واختير لرئاسته الشيخ "سليم البشري" ثم الشيخ "محمد أبو الفضل الجيزاوي" وكان كلاهما شيخا للأزهر ،وتولى أحمد لطفي السيد أمانة هذا المجمع،وقد اشترك فيه عاطف بركات، وحفني ناصف،وحمزة فتح الله،وحلمي عيسى،وأحمد الإسكندري وفارس نمر،وقد انفض هذا المجمع على أثر قيام ثورة1919،ثم عاد إلى الانعقاد سنة 1925،ولكنه لم يعقد سوى جلسة واحدة،ويبدو أن السبب في هذا كان انتقال أحمد لطفي السيد نفسه من دار الكتب إلى منصبه الجديد مديرا للجامعة المصرية "جامعة القاهرة الآن" .
وقد حضر هذا المجمع الثالث نشاطه في المجال الذي نشط فيه المجمع الأول،لكنه كان أقل توفيقا من المجمع الأول،حتى لا يمكن القول إن الحياة لم تقدر لأي لفظ من الألفاظ التي اقترحها،وذلك في مقابل نسبة نجاح كبيرة حققها المجمع الأول.
ولا يستطيع الباحث المنصف أن ينفي وجود محاولات أخرى شبيهة بالمحاولات المجمعية الثلاث التي أشرنا إليها،كما أننا لا نستطيع حصر المحاولات الفردية،أو الثنائية،للقيام ببعض الوظائف المجمعية،ومن أبرز هذه المحاولات جهود أحمد فارس الشدياق (1804-1888) واحمد تيمور باشا (1871-1930 ) وقد كان لهذين العالمين جهود معجمية ومجمعية رائدة حظيت ولا تزال تحظى بدراسات علمية مستفيضة.
د.محمد الجوادي