الرئيسية / المكتبة الصحفية / ألفية ابن مالك….نموذج لاختزال العلوم شعرا

ألفية ابن مالك….نموذج لاختزال العلوم شعرا

 

d7e25a1f-f532-4740-9078-c42986647221-192X290

 

المصدر : المجلة الثقافية – العدد 49

تمثل ألفية ابن مالك واحدة من منظومات علمية كثيرة نظمت في علوم وفنون كثيرة من علوم اللغة العربية والعلوم المتصلة بالدين الإسلامي في العصور التي بلغت فيها تقنيات تدريس هذه العلوم مرحلة القمة في الاستقرار والوضوح والكتابة العلمية والتعليمية المتقدمة ،ولم يكن هذا كله إلا نتيجة طبيعية للتجديد الحضاري من ناحية، ولطول ما مورس تدريسها وتعليمها والتعليق عليها وابتداع طرق خاصة في تقديمها للطلاب والمبتدئين.

والألفية هي كما يعرف معظم القراء….متن من الشعر المنظوم يتناول كل قواعد اللغة العربية –نحوا وصرفا- في ألف بيت من النظم مرتبة في فصول متوالية كما تترتب فصول أي كتاب في علم النحو.

وحتى في علم النحو نفسه فإن الألفية التي نعرفها ليست هي أولى الألفيات ،ذلك أن مؤلفها نفسه ابن مالك يعلن في البيت الخامس من مقدمتها عن وجود ألفية سابقة عليه هي ألفية ابن معطي ،ويحرص ابن مالك على أن يذكر أن ألفيته تفوق ألفية ابن معطي،لكنه في البيت التالي مباشرة يعود ليعترف بفضل ابن معطي،مشيرا إلى أنه بفضل سبقه عليه قد حاز الأفضلية ، ومما يروى في شرح البيتين التاليين أن ابن مالك رأى في منامه ابن معطى وهو يلومه على حديثه الذي يزهو فيه بألفيته الجديدة على الألفية التي تعلم منها وقلدها،فلما استيقظ ابن مالك من نومه نظم هذين البيتين الذي يقول فيهما:

وهو بسبق حائز تفضيلا                       مستوجب ثنائي الجميلا

والله يقضي بهبات وافرة                         لي وله في جنبات الآخرة

أما البيت الذي جعل ابن معطي يزور ابن مالك في منامه ففيه يقول ابن مالك:

وتقتضي رضا بغير سخط                   فائقة ابن معطي

والألفية هي الاسم المختصر لهذه المنظومة وغالبا ما تدعى "ألفية ابن مالك" ويمكن إذا أذن لنا القراء أن نستخدم تعبير الأطباء والصيادلة في وصف هذا الاسم الأصلي فهو "مختصر الشافية" ويدلنا هذا الاسم على أن الألفية نفسها متن مختصر من متن أكبر اسمه المختصر"الشافية"أما اسمه الكامل فهو "الكافية الشافية"وهي منظومة كبيرة في النحو للمؤلف نفسه تحتوي على ثلاثة آلاف بيت،وقد تولى ابن مالك نفسه شرح المنظومة الكبيرة كما تولى –بالطبع- اختصارها في الألفية التي نعرفها والتي أتيح له فيها ما لم يتح للمتن الكبير ولا لغيره من شهرة فائقة وذيوع صيت وخلود مستمر على مدى الأجيال.

على أن ابن مالك (600هجري)أضاف إلى جهوده في التأليف النحوية جهدا آخر بان نثر الألفية نفسها في كتاب منثور سماه" الفوائد النحوية والمقاصد النحوية" .

وتثبت المراجع الببليوجرافية لابن مالك بالإضافة إلى "الألفية" و"الشافية" التي هي المتن الموسع منظومة شعرية ثالثة في النحو سماها" الموصل في نظم المفصل" ،وقد نثرها أيضا في كتاب سماه" سبك المنظوم وفك المختوم" وهكذا فإن الكتب الأمهات التي ألفها ابن مالك تضم ثلاث منظومات وكتابين منثورين عن اثنتين من المنظومات الثلاث.

وليس من العجيب أن يبدأ المؤلف بالنظم ثم ينثره مع أن النثر أسهل،ولكن الجهد العلمي كما نعرف يصل إلى ذروته ثم يتبسط في عرض ما وصل إليه،ولعل هذا يتفق (من قريب أو من بعيد)مع ما يقال –في تاريخ الآداب وهو غالبا صحيح- من أن الشعر أسبق من النثر.

وفي كثير من الأحيان كانت الألفية تمر بخاطري،وكنت بعد تفكير في صياغتها، وترتيبها وإحكام نصوصها أجد نفسي مدفوعا إلى الظن بأن الذي وضعها على هذا النحو كان معنيا أو مفتونا بالنصوص القانونية التي تخرج الأحكام بدقة بالغة من نصوص واضحة المعنى لا لبس فيها ولا غموض لأنها نصوص شاملة لما في الاحتمالات المختلفة من ورود،ولما في القرائن والدلائل من اجتماع أو انتقاء ،فضلا عن الوعي بالحالات الخاصة ومدى استمتاعها باستثناء قانوني من قواعد قانونية عامة.

وحين قرأت تاريخ ابن مالك صاحب الألفية وجدته بالفعل كثير المعاشرة لأهل القانون ومنهم قاضي القضاة.

ولكن هل كان ابن مالك بلغة العصر الحديث مجرد مدرس مجيد وخبير بقواعد النحو وبتدريسها إلى حد أنه توقف عن التدريس وتأصيل ما سبق عليه،وانحصرت إضافاته فيما يسمى في علوم التربية ب "الطرق الخاصة" فحسب؟ ،أم أنه كان شان الأساتذة الكبار معنيا أيضا بالبحث في قواعد اللغة وفلسفة هذه القواعد وإعادة "تقعيدها" كما يقول الأصوليون (وليس إعادة تعقيدها كما سيقول القراء الظرفاء).

يبدو بوضوح إن ابن مالك كان من طراز متقدم من أساتذة النحو،وتثبت القوائم الببليوجرافية أن له دراسات مهمة اختار لها عناوين معبرة تمام التعبير عن محتواها،من هذه الدراسات:

  1. الإعتضاد في الطاء والظاء.
  2. فعل و أفعل.
  3. تحفة المودود في المقصور والممدود.
  4. النظم الأوجز فيما يهمز.

فهذه موضوعات نحوية متداولة في أوساط النحو العليا على حد ما يقول به التعبير الأكاديمي ، وقد قدم ابن مالك رؤيته لها مثبتا تمكنه من العلم والتفكير فيه على نحو ما أثبت مقدرته على تقديم علم النحو وتدريسه.

ولم يقف ابن مالك عند حدود هذا لكنه تولى بنفسه إجراء بعض ما نسميه الآن الدراسات التطبيقية،وهكذا تولى هذا العالم الجليل شرح" لامية الأفعال" كما تولى "إعراب مشكل البخاري".

أما ثاني أشهر كتب ابن مالك بعد الألفية فهو كتابه "تسهيل الفوائد وتكميل المقاصد".

ومن حسن حظ المكتبة العربية أن دار الكاتب العربي للطباعة والنشر نشرت هذا الكتاب عام1967 بعدما قدمه الأستاذ محمد كامل بركات لنيل درجة الماجستير من قسم اللغة العربية بآداب القاهرة بإشراف أستاذه المغفور له الدكتور يوسف خليف.

وفيما عدا هذين الكتابين فإن الآثار العلمية لابن مالك لا تزال بحاجة إلى تعريف وتحقيق ودراسات مستفيضة تكفل للمتأخرين الإفادة من ثمار هذه العقلية العلمية الجبارة التي أثرت في دراسة علوم اللغة العربية طيلة القرون الثمانية الماضية وحتى اليوم.

ويمكن باختصار شديدان أن نصور للقارئ مكانة ابن مالك في النحو العربي على نحو تاريخي،فلا يزال النحو العربي الذي ندرسه حتى يومنا هذا متأثرا بتقديم ابن مالك له،ومع أننا جميعا نعرف أن أبو الأسود الدؤلي هو أول من وضع القواعد النحوية ، وان سيبويه هو أبو النحو العربي بفضل كتابه "الكتاب"إلا أن الطريقة التي قدم بها ابن مالك النحو من خلال مؤلفاته وأشهرها " الألفية"قد غطت تماما  على جهد سيبويه ومنهجه في تقديم النحو .

لم يضع ابن مالك قواعد النحو العربي،فهي بالطبع موجودة في اللغة نفسها ،ولم يسجل هذه القواعد، فقد سبقه سيبويه إلى هذا،وتلاه كثيرون من علماء النحو الذين استطاعوا ان يصلوا بالدراسات النحوية إلى النضج التام،أو إلى أقرب ما يكون من النضج التام….

وقد جاء ابن مالك بعد هذا كله ،بعد تبلور المدارس واكتمال المذاهب وثراء التراث إلى أبعد الحدود، وهكذا كان من الصعب أن يجد لنفسه مكانا في تاريخ النحو إلا بعبقرية فذة،وقد استطاع هذا العالم( الجديد) بذكاء نادر وقريحة ناقدة ان يستوعب كل ما سبقه، وان يبدأ في الإضافة إليه،ومع أن العقيدة القائلة بأن الأول لم يترك للآخر "شيئا" كانت سائدة تماما في وقت ابن مالك،غلا انه – وهذا هو بيت القصيد – كان يرى أن بإمكانه أن يضيف وأن يبدع،وقد عبر عن هذا المعنى بجملة رائعة في مقدمة كتابه "التسهيل" قال فيها:

وإذا كانت منحا إلهية،ومواهب اختصاصية، فغير مستبعد أن يدخر لبعض المتأخرين،ما عسر على كثير من المتقدمين".

على هذا النحو يمكن لنا ان نصور ابن مالك للقراء على انه أصبح  طيلة القرون التالية بمثابة "المرجع" و "صاحب المرجع".

ومن التقاليد الراسخة التي ابتدعتها الحضارة الإسلامية أن يكون لكل علم من العلوم كتاب "أو أكثر" يكون بمثابة المرجع،لا يسمح لحد أن يمارس التعليم والبحث والتعليم في هذا التعليم إلا بعد ان يكون قد استوعبه تماما.

ومما يدل على عظمة ابن مالك أن كتابه" الألفية" ظل بمثابة هذا المرجع ربما إلى يومنا هذا ، وأن كتابه الآخر "التسهيل" كان أيضا بمثابة هذا المرجع عند أهم معارضي ابن مالك وهو أبو حيان النحوي الذي يرى مؤرخو النحو انه "اشد النحاة مخالفة لابن مالك وأكثرهم شغبا عليه" لكن هذا العالم الجليل كان لا يسمح لأحد أن يقرأ عليه إلا في كتاب "التسهيل" أو في "كتاب سيبويه" وفي هذا أكبر دليل على عظمة ابن مالك وعظمة ابن حيان النحوي أيضا.

ونعود إلى الألفية ،وقيمتها عند دارسي العلوم اللغوية والعربية قيمة كبيرة جدا،وهي عند مدرسي العلوم اللغوية العربية كذلك ذات قيمة ضخمة،فقد يسرت حفظ قواعد اللغة بفضل تركيز عباراتها،كما أن كونها منظومة قد يسر حفظها واستدعاءها من الذاكرة عند الحاجة التي تذكر.

القاعدة النحوية أو معرفتها أو التأكد منها أو مقارنتها بالقواعد الأخرى.

ومن حسن حظ التعليم الأزهري في مصر أنه كان يأخذ  بمبدأ الحفظ،وأنه لم يكن يجد في الحفظ خطيئة على النحو الذي أصبح فيه بعض المحدثين"الغرباء عن فهم المناهج التربوية"يصورون الحفظ،ومع أن هذا المقال ليس مجالا لمناقشة هذه القضية،إلا أني أحب أن أؤكد للقارئ ما ذكرته في أحد مقالاتي  من أن ما نعرفه بالحفظ  يمثل إحدى الوسائل المهمة جدا لمعاونة العقل البشري على إتمام كثير من العمليات الذهنية والمنطقية والفكرية في سرعة بالغة  تضيف إلى الإنجاز الفكري ولا تنتقص منه.

كما أن "الذاكرة" البشرية التي يضيف الحفظ إليها موضوعات ومعلومات  جديدة هي واحدة من أعظم نعم الله على الإنسان،وربما تمثل أبدع صور الإعجاز الإلهي في العقل البشري….كما أن النصوص الفكرية "سواء كانت في الأدب أو العلم" لا يمكن أن تتحد بالتفكير البشري و تتوحد معه وتكتسب القدرة على التفاعل معه بدون الحفظ….أيا كانت الصورة التي تحقق الحفظ.

على أن الأهم من هذا كله أن "النص" نفسه( أي نص) لا يكتسب الحميمية مع الدارس بدون حفظ….حتى ولو كان النص مم لا يستحق الحفظ.

ولست أزعم أني تعلمت النحو من خلال الألفية ،ولكني تعلمت النحو بينما كانت الألفية"المشروحة" موازية لي،ولازلت أحتفظ في مكتبي بنسخة مجلدة من أربعة أجزاء هي شرح ابن عقيل على الألفية بتحقيق الأستاذ طه الزيني،أهدتها لي مدرستي الإعدادية بمناسبة فوزي بجائزة القرآن الكريم على مستوى المحافظة وسجل الناظر الإهداء بيده على كل جزء من الأجزاء الأربعة مقرونا بخاتم المدرسة،وحين كنت أتولى في بعض الأحيان تدريس اللغة العربية في فصول  التقوية الصيفية،فإني كنت في كثير من الأحيان ألجأ إلى بعض أبيات الألفية لتدريس بعض دروس النحو بطريقة مبتكرة، وأستطيع أن أزعم أن التلاميذ كانوا يتجاوبون مع هذه الطريقة بصورة مذهلة،ويكفي أنهم جميعا كانوا في نهاية الحصة المخصصة لدراسة "إن وأخواتها" يحفظون قول ابن مالك:

لأن أن ليت لكن لعل                       كأن لكي ما لكان من عمل

وفي هذا البيت كما نرى بوضوح استطاع ابن مالك أن يحصر إن وأخواتها جميعا على سبيل التوالي،وأن يقدم ملخصا بديعا لعمل هذه الأخوات في النص مقارنا هذا العمل بعمل كان وأخواتها،ذاكرا إنه عكس هذا العمل،وليس أدعي إلى تذكر القاعدة وفهمها من هذا النص العبقري .

لكني عن دراستي للآثار الفكرية والآراء اللغوية لمحمد كامل حسين( عضو المجمع اللغوي) فوجئت به يجاهر في المجمع اللغوي بآراء مضادة أو (إذا أردنا الدقة) معادية للألفية ولمنهجها في تعليم النحو،وهي آراء تستحق الاحترام حتى وإن لم تكن صائبة،وقد كنت أميل إلى الاعتقاد  في صحتها حين كتبت كتابي عن محمد كامل حسين عام1978،وظلت على هذا حتى نضجت وأتاح لي نضجي احتكاكا أكثر بطوائف معلمي اللغة ودارسيها،وأدركت ما أدركه المسئولين عن تعليم قواعد اللغة طيلة القرون السبعة الماضية من أهمية وجود وخلود وحضور بديع كالألفية.

ومع هذا فإني أحب أن أورد بعض النصوص التي هاجم بها محمد كامل حسين " الألفية" وسأقتبس من هذه الأقوال قوله:

" ومن أكبر الدلائل على تدهور علوم اللغة ما فعله ابن مالك حين وضع ألفيته المعروفة ،وليس من المبالغة أن نقول إنها ساعدت بدورها في هذا التدهور،وعندي أنها عادت بأضرار جسيمة على العربية،والعناية بها من الأسباب التي باعدت بين النحويين والكتاب".

"والأضرار التي ألحقتها ألفية ابن مالك باللغة العربية كثيرة،منها أنها نظم سقيم لا يقبله من عنده أقل قدر من الذوق الأدبي،ولا أظن أن أحدا  ممن حفظوها يستطيع أن يكتب شيئا ذا بال من غير النحو،وهي من الأمور التي ساعدت على انطواء النحويين على أنفسهم،كان النحو بمعزل عن كل ما يفيد منه الكاتب والأديب،ثم أنها ركزت جهد المتعلمين على درس القواعد كأنها غاية في ذاتها،والتأكيد على قواعد اللغة والحاجة إلى تذكر تفاصيلها يعوق المتعلمين من الانطلاق في التفكير،ومن هنا أصبح العلم باللغة العربية احترافا"

"والألفية مجموعة طلاسم لا تفهم إلا بعد شرحها شرحا وافيا،ولا يفيد أحد منها إلا بعد شرح هذا الشرح،حتى إذا بلغ الإنسان جوهر القاعدة وجد أنها لا تستحق شيئا من هذا الجهد….قيل إنها سهلت العلم بالقواعد،ولكن فائدة هذا النظم تضيع بين سوء النظم وشرح الشراح،ولذلك تعددت الشروح والتقارير والحواشي،ولولا الألفية لاستطعنا أن نحتفظ من قواعد اللغة بما تكون في حاجة إليه".

ومع كل إعجابي وتقديري لمحمد كامل حسين إلا أنني أظن أن هذه الآراء لا تعبر عن علمه وتقديره بقدر ما تعبر عن مثالياته وآماله ،وليس صعبا أن ندرك أن تعليم النحو شيء،وتنمية الذوق شيء آخر،ولا ينبغي لنا أن نتصور أنهما مجتمعان على الدوام،وإذا جاز أنه من الممكن أن يجتمعا،فإن هذا الجواز ليس قاعدة،وإن كان قاعدة فليس بمثابة القاعدة على وجه العموم،كما أنه في ظني قد يكون مستحيل الحدوث باطراد.

هذا والله ورسوله أعلم.

شارك هذا المحتوى مع أصدقائك عبر :
x

‎قد يُعجبك أيضاً

حماس على طريق النصر

لما ظهرت حركة حماس إلى الوجود دارت مناقشات متعددة حول جدواها ومستقبلها، ...

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com